أثير- تاريخ عمان
حاوره: د. محمد بن حمد العريمي
عندما كنت في محافظة ظفار خلال زيارتي الأخيرة لها، وعند زيارتي إلى ولاية رخيوت الجميلة، ومن بعدها مدينة صلالة، كنت حريصًا على مقابلة شخصيّة فريدة، طالما سمعت عنه وعن مسيرته الحياتية الغنيّة بالأحداث والمنجزات، والاقتراب منه، والاستماع إليه كونه كان شاهدًا على حقبةٍ حرجةٍ ومهمّة من تاريخ هذا الوطن.
إنه الرجل الذي حمل كفنه بجوار روحه طوال سنوات إعادة اللحمة الوطنية ورسم خارطة الوطن. الرجل الذي آمن بالوحدة الوطنية ودعم جهود السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- في سبيل تحقيقها. الشخصية التي كان الموت والاغتيال يحاصره في كل ثانيةٍ يقوم بها بجهده الكبير في سبيل استرجاع تراب الوطن، وتفنيد جميع الدعايات المغرضة، وتأليف القلوب، وإقناع المختلفين بالعودة إلى جادّة الصواب، والإداري الذي قام بجهدٍ كبير في سبيل بعث الحياة من جديد في حاضرة الغرب، والبندر التجاري العريق، وملتقى قوافل اللبان وتجارة الشرق، في رخيوت، والبرلماني الذي أسهم بفكره وعصارة خبرات السنين في رفد غرفتي مجلس عمان (الشورى والدولة) بالعديد من الأفكار والمقترحات، بل والمطالبات التي من شأنها تعزيز نمط الحياة ومستواها في ولايته، بل وفي سلطنة عمان بصورة عامة، والإعلامي والموثّق الذي بهرته الصحافة وأوراقها الرمادية والصفراء منذ أول يومٍ وطأت فيه رجلاه أرض الكويت، فكانت الكاميرا رفيقته التي وثّق من خلالها صورًا عديدة لملامح الحياة، والتاريخ، والفن، والسياسة، والحرب.. والسلام.
إنه الشيخ العَلَم سعيد بن علي بن عوض السعدوني عكعاك، الذي تأخذكم “أثير” في تطواف سريع مع بعض محطّات حياته الحافلة.
النشأة
ولد الشيخ سعيد بن علي بن عوض السعدوني حوالي عام 1948 في رخيوت التي كانت تعد من المدن القديمة العامرة في جنوب سلطنة عمان، وتعد حاضرة المناطق الغربية من ظفار وباديتها، وبفضل تجارتها التي كانت تقوم على الزراعة الموسمية وتجارة اللبان، وعلاقاتها التجارية مع موانئ الخليج واليمن والهند وشرق أفريقيا؛ أصبح ميناؤها ملتقى المراكب التجارية المحمّلة بمختلف البضائع، وارتبطت بعلاقات تجارية مميّزة مع عدد من البنادر والموانئ مثل: مسقط، وصور، وعدن، والمكلّا، وبنادر الشحر، وبومباي، وغيرها.
أما الأسرة التي ينتمي إليها، فهي أسرة حصلت على صيتٍ كبير في مجال السياسة والتجارة والنفوذ القبلي منذ عهد جدّه الأول سعيد بن عامر عكعاك الملقّب بسعيد السعدوني الذي يذكر (دليل أعلام عمان) أنه أول من بنى بيتًا في رخيوت، وقد عاصر السلطان سعيد بن سلطان، وكان مهتمًا بالتجارة ووصلت قوافله وبالأخص قوافل اللبان إلى اليمن وحضرموت، والهند، وشرق أفريقيا. كما ذكره المسّاح الإنجليزي كارتر في دراسته “جغرافية الساحل العربي الجنوبي الشرقي” التي نشرت في عام 1851م، والمتعلقة بجولته في ظفار في عام 1846م، حيث وصفه بأنه رجل عجوز ومهذّب، وأنه غني جدًا بالمواشي والقطعان، حيث يمتلك 200 جمل، وما يزيد على 500 رأس بقر، و1000 رأس غنم.
أما جدّه محاد بن سعيد بن عامر عكعاك الذي عُرِفَ بمحاد حويت فقد كان شيخًا وتاجرًا، تولى أمر رخيوت وإدارة بندرها، وعاصر السلطان تركي بن سعيد وابنه السلطان فيصل، وكان من المجبّرين، أي المعفيين من العشور، وفي عهده ازدهرت تجارة رخيوت، واستحوذ على عددٍ من منازل اللبان. كما امتلك عددًا من السفن التجارية من بينها (الحكليّة) أو (حكيلوت) باللغة المحلية التي صُنِعَت في رخيوت على يد عدد من صانعي السفن(الوساتيد) الذين جلبهم الشيخ محاد، و(فتح الخير) التي اشتراها من الهند، و(فتح السلام) التي اشتراها من حضرموت بمشاركة أحد التجار السادة ويدعى عبد القادر بن علوي بن عبدالقادر، و(عدنات)، إلى جانب امتلاكه بعض السنابيق الصغيرة التي كانت تختص بشحن البضائع وتفريغها من وإلى السفن.
كما امتلك الشيخ محاد حويت عددًا من المدافع البرتغالية القديمة، وقام ابنه الشيخ عوض بن محاد بإهداء أحدها ويدعى (هداد) إلى السلطان تيمور بن فيصل خلال زيارته الشهيرة إلى رخيوت سنة 1343هـ، وكانت تلك المدافع تستخدم للدفاع عن المدينة، وكذلك في بعض المناسبات الدينية، ومناسبات الأفراح، والختان، وغيرها.
وفي عهد مشيخة محاد بن سعيد السعدوني تم توقيع عدد من المعاهدات بحسب متطلبات تلك الفترة السياسية وظروفها، فقد تم توقيع اتفاقية مبايعة مع السيد فضل بن علوي مولى الدويلة عام 1288هـ الموافق 1873م. كما تم توقيع اتفاقية صداقة مع حكومة آل سعيد في عهد الوالي سليمان بن سويلم عام 1308هـ الموافق 1890م، والتي على إثرها أصبحت رخيوت تابعة لحكومة آل سعيد.
والشيخ محاد بن سعيد هو الذي أعاد بناء مسجد (النور) أو (برحويت)، حيث تذكر المصادر أنه كان عبارة عن مصلّى ثم قام الشيخ محاد ببناء جدرانه من الحجر والطين، وسقّفه بمواد تقليدية محلية. كما قام بفرشه بالحر المصنوعة من السعف، وقد توفي في حوالي 1309هـ الموافق 1891م.
ومن شخصيات أسرة (السعدوني) البارزة، الشيخ علي بن سعيد بن عامر أخ الشيخ محاد، وقد ورد اسمه ضمن قائمة الموقّعين على وثيقة مبايعة السيد فضل مولى الدويلة. كما كان عضدًا وسندًا لأخيه الشيخ محاد في الأحداث السياسية التي مرّت بها رخيوت، وكان من الداعمين والمؤيدين لتوقيع معاهدة عام 1308 مع الوالي سليمان بن سويلم.
ومنهم كذلك الشيخ جمعان بن علي بن سعيد الذي أطلق عليه لقب (الوالي جمعان)، حيث تولى المشيخة بعد وفاة عمّه الشيخ محاد حويت حتى يبلغ ابنه عوض الذي كان وقتها يتلقى العلوم الشرعية في حضرموت سن الرشد، وقد استطاع الشيخ جمعان إقناع السلطان تيمور باستمرارية إعفاء أهل رخيوت من العشور المقرّرة على بضائعهم، وهي مادة كانت مشار إليها ضمن بنود الاتفاقية مع الوالي سليمان بن سويلم.
ومنهم جدّه المباشر، الشيخ العَلَم المعروف عوض بن محاد السعدوني عكعاك، الذي تولى المشيخة بعد عودته من رباط حضرموت، وعاصر كلًا من السلطانين تيمور بن فيصل، وابنه سعيد بن تيمور، وقد ارتبط مع كليهما بعلاقات ودّ وصداقة امتدادًا لعلاقة والده من قبله مع أسلافهم، وفي عهده قام السلطان تيمور بزيارته الشهيرة إلى رخيوت عبر طريق عقبة القمر في السادس من شهر ذي القعدة 1343هـ والتي وثّقها الشاعر سعيد المجيزي (أبي الصوفي) في قصيدته الشهيرة بالقصيدة الرخيوتية.
كما ارتبط الشيخ عوض بعلاقة وثيقة مع السلطان سعيد بن تيمور الذي أكّد مشيخته على رخيوت وما يحيط بها، وكانت اللقاءات والمشاورات بينهما مستمرة كل ما قام الشيخ عوض بزيارة إلى صلالة.
وعدا عن كونه شيخًا قبليًا بارزًا فقد عُرِف عن الشيخ عوض اهتمامه الكبير بالتجارة أسوةً بأسلافه، وبالأخص في مجال تجارة اللبان وامتلك سفنًا وسنابيق عديدة كان بعضها يمارس النشاط الملاحي الخارجي مع موانئ اليمن والهند وشرقي أفريقيا، والآخر يمارس النشاط المحلي في مجال تحميل وإنزال البضائع من السفن القادمة إلى رخيوت (الطالع والنازل)، وهناك عدد من الوثائق التي تشير إلى هذا النشاط:
كما كان الشيخ عوض السعدوني بحكم نشأته الدينية ودراسته في حضرموت، مرجعًا قبليًا لحل العديد من الإشكالات القبلية التي تنجم أحيانًا بسبب بعض الخلافات على المراعي أو أماكن النفوذ وغيرها. كما كان مهتمًا بعلوم الدين؛ لذا فقد أصبحت رخيوت في عهده قبلةً للعلماء ورجال الدين الذين حطوا رحالهم في رخيوت وافتتحوا عددًا من المدارس الأهلية، وعلى أيديهم تعلّم أبناء المدينة العلوم الابتدائية في مجالات التجويد، والحساب، ومبادئ القراءة والكتابة. كما قام الشيخ عوض بتوسعة جامع النور واستقدم بنّاءً ماهرًا من مدينة (تريم) اليمنية فبناه على طراز المساجد الموجودة آنذاك في ظفار.
وقد أنجب الشيخ عوض بن محاد السعدوني عددًا من الأبناء من بينهم الشيخ علي بن عوض السعدوني الذي ذاع صيته في مجال التجارة وكان له عدد من المراسلات التجارية مع تجّار الهند، بالإضافة إلى أدواره القبلية كمساعد لوالده، وكان يشرف على إحضار الضريبة السنوية المقررة من قبل الحكومة على أصحاب المواشي في عموم المنطقة الغربية وفقًا للتفويض الممنوح إلى والده من قبل السلطان سعيد بن تيمور.
ومنهم كذلك الشيخ حامد بن عوض السعدوني الذي اهتم بعلوم الدين، وتعلّم القراءة والكتابة على يد والده، ثم على يد عدد من علماء الدين في رخيوت، وكان يحظى باحترام الجميع ومرجعًا لحل العديد من القضايا التي تتعلق بالشأن العام في رخيوت وما حولها، وكان ضمن شخصيات رخيوت التي رافقت وفد الحكومة لمعاينة الحدود العمانية اليمنية في ضربة علي.
ومنهم عمّه الشيخ عبد الله بن عوض السعدوني (عبد الله مرزّع)، تولى المشيخة بعد وفاة والده الشيخ عوض بن محاد، وربطته علاقة بالسلطان سعيد بن تيمور الذي التقى به أكثر من مرة في صلالة، وكان بينهما رسائل متبادلة في المناسبات المختلفة.
ومن شخصيات الأسرة البارزة أخوه رجل الأعمال المعروف الشيخ أحمد بن علي السعدوني، الذي عُرِف عدا عن نشاطه التجاري، بأعمال الخير وله إسهامات مجتمعية عديدة. كما كان مساندًا لجهود المؤسسات الحكومية في بداية عهد النهضة المباركة من خلال تقديم الدعم المادي المتمثل في الأدوات، والمركبات، وغيرها.
دراسته
تلقى الشيخ سعيد بن علي بن عوض السعدوني دراسته الأولية أو ما يسمى بالقاعدة البغدادية على يد المعلّم محمد بن حسين اليافعي حتى ختم القرآن الكريم. كما درس على يد عمّه المرحوم حامد بن عوض السعدوني علوم الحساب ومبادئ الكتابة، وهذا الأمر أفاده كثيرًا عندما سافر إلى الكويت بعد ذلك للبحث عن عمل.
إلى الكويت
في أواخر عام 1958م قام الشيخ سعيد بن علي بأول رحلة في حياته عندما سافر برفقة عمته لأداء فريضة الحج، وكان ذلك على متن إحدى سفن التاجر المعروف سعيد بن خميس ولد شيله القاسمي أحد نواخذة مدينة صور المعروفين، حيث انطلقوا من رخيوت إلى صور التي ظلوا بها لمدة ثلاثة أيام في بيت تسكنه إحدى النساء التي تعود أصولها إلى رخيوت، ومنها إلى الخُبَر بالمملكة العربية السعودية وكانت في بداية نشأتها الحديثة مع ظهور النفط وتوافر فرص العمل في الشركات الكبيرة مثل (بن لادن)، و(أرامكو)، وهناك في الخبر ظلوا كذلك لمدة ثلاثة أيام في منزل بعض الأشخاص من رخيوت قبل أن يجدوا وسيلة نقل تقلّهم إلى الكويت على متن إحدى السيارات التي تنقل الركّاب بين الخبر والكويت.
وعندما وصل الشيخ سعيد بن علي إلى الكويت في نهاية عام 1958 أو بدايات عام 1959 نزلت عمّته في بيت أخيه الأكبر الشيخ أحمد بن علي السعدوني استعدادًا للذهاب إلى الحج حيث سيلتقون هناك بعمّه الشيخ عبد الله بن عوض السعدوني ومن معه، أما الشيخ سعيد فقد نزل في بيت بعض معارفه ومن بينهم الشيخ محمد عماد الدين المسن وكان عالمًا تعود أصوله إلى مدينة (ذمار) اليمنية هاجر إلى رخيوت وكان يدرّس علوم الدين فيها قبل انتقاله إلى الكويت، ويملك بيتًا في منطقة (الأحمدي)، وظل الشيخ سعيد في بيته لمدة أسبوع. كما لم تنقطع صلته به أثناء فترة مكوثه في الكويت.
أما قصة حصوله على عمل في الكويت وهو فتىً لم يتجاوز الثانية عشرة وقتها فلها حكاية أخرى، حيث كان الشيخ سعيد مقيمًا في بيت أحد معارفه من رخيوت، وبينما هم يتجاذبون أطراف الحديث في إحدى الليالي إذ بشخص من مرباط يدخل عليهم، وعندما رأى الشيخ سعيد وسأل عنه وعرف أسرته وأهله سأله إن كان ملتحقًا بعملٍ أم لا، وعندما أجابه الشيخ سعيد بالنفي حفّزه المرباطي على البحث عن عمل وأخبره باستعداده للبحث له عن عمل حيث أخذه في اليوم الثاني إلى وزارة الأشغال وطلب من أحد المسؤولين أن يبحث له عن فرصة عمل في الوزارة، فقام المسؤول بإعطاء الشيخ سعيد ورقة وقلمًا وطلب منه كتابة بعض الجمل من أجل اختباره، وعندما اجتاز الشيخ الاختبار أخذوه في اليوم التالي إلى المستشفى الأميري لاستكمال إجراءات التعيين.
عمل الشيخ سعيد بن علي في بداية مشواره الوظيفي كمراسل في قسم المستودعات والمشتريات، وقد لفت انتباه مرؤوسيه بقدرته على اكتشاف بعض الأخطاء الحسابية أثناء نقله للأوراق والكشوف، الأمر الذي دعاهم إلى تغيير مسماه الوظيفي من مراسل إلى كاتب.
وأثناء عمله الصباحي في وزارة الأشغال، حرص الشيخ سعيد بن علي على استكمال دراسته، فكان يأخذ دروسًا مسائية في إحدى المدارس. كما قامت جهة عمله بإلحاقه بأحد المعاهد المتخصصة في مجال السكرتارية والطباعة حيث حصل على شهادة دراسية في هذا التخصص.
ومن المفارقات أن رئيس المهندسين في وزارة الأشغال وقتها كان الرئيس الفلسطيني فيما بعد ورئيس حركة فتح ياسر عرفات، وقد جمعته بالشيخ سعيد علاقة طيّبة، وكانوا يلتقون بين فترةٍ وأخرى أثناء تأدية صلاة الظهر أو في بعض المناسبات الخاصة بالوزارة.
وأثناء وجوده بالكويت لم تكن رخيوت غائبة عن بال الشيخ سعيد، وقد كان يرغب في نقل بعض التجارب والممارسات الحديثة التي رآها في الكويت إلى رخيوت، ومن بين تلك الأفكار: طرح فكرة تأسيس جمعية تعاونية استهلاكيّة أسوة بالجمعيات التي ظهرت في الكويت وقتها بهدف توفير السلع في رخيوت بأسعار مناسبة، وقد قام الشيخ سعيد بطرح فكرة التأسيس على عدد من أبناء المدينة في الكويت، وتمت المساهمة من خلال شراء الأسهم المرتبطة بتنفيذ هذا المشروع، ثم، وبسبب الظروف السياسية المحيطة بالمدينة، لم يتم تنفيذ المشروع، لكنه كان فكرة رائدة وسابقة لزمانها في ظفار بصورة عامة.
ظل الشيخ سعيد بن علي في الكويت حتى عام 1966م حيث رغب في العودة إلى رخيوت لزيارة الأهل واستطلاع أحوال المنطقة والحالة السياسية، خصوصًا وأنهم كانوا يرغبون في تنفيذ بعض المشروعات ومن بينها مشروع الجمعية الاستهلاكية، وكانت مدة الإجازة القانونية له هي (40) يومًا، لكنه طلب أن تكون مدة إجازته ثلاثة أشهر، حيث إن المدة المقرّرة له قانونًا لا تكفي لطريق الذهاب والعودة، وأبدى استعداده لتقديم استقالته في حالة عدم الموافقة على طلبه، لكن مديره المسؤول كان يدرك مدى الجهد الذي يبذله وتفانيه في عمله، فسمح له بالإجازة التي طلبها.
كان طريق العودة إلى رخيوت شاقًا وطويلًا، فمن الكويت ركب إحدى الطائرات إلى عدن، وفي عدن ظل لحوالي شهرين ينتظر أي مركب شراعي متوجّه إلى ظفار أو بلاد المهرة، وخلالها كان يتنقّل ما بين وكالة التاجر اليمني المعروف صالح رابضة وكان على صلة بأسرته في رخيوت، وما بين فندق (قصر الجزيرة)، وكان بعض أصحاب السفن يرفضون ركوبه معهم بحجة عدم وجود اسمه في كشوف المسافرين الصادرة من الحكومة.
في نهاية المطاف سافر الشيخ سعيد بن علي على متن سفينة يملكها مبارك وسالم أبناء علي بن سيف الجابري من نواخذة صور، وكانت تتوقف في أكثر من ميناء من بينها نشطون، والغيضة، ومحيفيف، وضبوت إلى أن وصلت وجهتها الأخيرة في (جادب)، وهي مدينة يمنية تتبع حاليًا محافظة المهرة، حيث نزل فيها الشيخ سعيد وهناك استقبله الشيخ علي بن محمد بن ياسر بيت رعفيت المهري، وقدّم له واجب الضيافة.
وفي (جادب) استغل الشيخ سعيد الفرصة وقام بزيارة بعض معالم المدينة ومن بينها مدرسة جادب التي كان مديرها أحد أقاربه، حيث قام بالتقاط مجموعة من الصور بالكاميرا التي أحضرها معه من الكويت.
وبعد يومٍ واحد من وصولهم إلى جادب، واصل الشيخ سعيد بن علي طريقه إلى رخيوت مشيًا على الأقدام ومعه أربعة من شباب رخيوت المرافقين له، حيث وصلوها عصر ذلك اليوم وكانوا قد انطلقوا من جادب بعد الفجر، وعند وصولهم تفاجأ بعض الأشخاص الموجودين على الساحل بوصولهم وأطلقوا الأعيرة النارية احتفاءً بذلك.
بعد انتهاء مدّة الإجازة المقرّرة رغب الشيخ سعيد بن علي في العودة إلى الكويت مرةً أخرى، لكن رحلة العودة وقتها كانت محفوفة بالمخاطر، فالسفر عبر مسقط كان أمرًا صعبًا في ظل الظروف السياسية المرتبطة بظفار وقتها واحتمالية اعتقالهم في كوت الجلالي، والسفر عبر ظفار كان أمرًا غير سهل بسبب صعوبة الحصول على تصاريح سفر من قبل مكاتب ما يدعى بجبهة تحرير ظفار التي كانت قد افتتحت مكتبًا لها في (حوف) وكانت بحاجة إلى تجنيد مزيد من المقاتلين؛ لذا فقد امتدت الإجازة التي كانت مقررة بثلاثة أشهر إلى حوالي السنتين والنصف بسبب تلك الظروف.
كان الإصرار على العودة إلى الكويت حاضرًا في ذهن الشيخ سعيد خصوصًا مع الأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية التي ارتبطت بها، لذا فلم يكن أمامه ورفاقه سوى طريق المغامرة، فخرجوا من رخيوت باتجاه (حوف)، وكان من ضمن مرافقيه أخوه الإعلامي المعروف عبد العزيز السعدون، وكان وقتها لا يتجاوز عمره الثانية عشرة، وعندما وصلوا هناك استوقفهم أحد موظفي مكتب الجبهة وأخبرهم أن مسؤولي المكتب يرغبون في مقابلتهم، وهناك أدخلوهم في أحد مكاتب المبنى وأحضروا لهم شايًا، ثم طلبوا منهم الانضمام إلى الجبهة بحجّة الحاجة إلى متطوّعين جدد للانضمام إلى جيش الجبهة، فكان ردّ الشيخ سعيد ورفاقه: "إذا كان الكل سيقاتل فمن سيبقى لإحضار المال!”.
بعد خروجهم من المكتب التقى الشيخ سعيد ورفاقه بمدير المنطقة الشرقية في اليمن ويدعى عبدالله المزيرعي الذي كتب لهم تصاريح العبور وقام بدعوتهم إلى بيته لتناول وجبة الغداء لسابق معرفته بأسرة الشيخ سعيد، وقد حضر الوليمة أربعة أشخاص من مكتب الجبهة كانوا في طريقهم لحضور مؤتمر (حمرين) التاريخي، وكانوا يحملون الكلاشينكوف، وكانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها الشيخ سعيد هذا النوع من الأسلحة!
بعد تناول وجبة الغداء أكمل الشيخ سعيد بن علي ورفاقه طريقهم مشيًا باتجاه (الغيضة) التي وصلوها قبل ظهر اليوم التالي، ومن هناك حصلوا على جوازات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وحاولوا البحث عن وسيلة نقل بحرية تقلّهم لكنهم فشلوا في ذلك، الأمر الذي اضطرّهم إلى الركوب على ظهر سيارات من نوع (البيدفورد) كانت تحمل صهاريج نفط متوجهة إلى ميناء (المكلّا)، ومن المكلّا ركبوا على ظهر باخرة في طريقها إلى مسقط وعلى متنها مجموعة من العمانيين.
عندما وصلت الباخرة إلى ميناء مسقط، وكانت قلعة الجلالي ماثلة أمام أعين الشيخ سعيد، صعد على متنها عدد من رجال الشرطة لأخذ بيانات المسافرين والتأكد من أوراقهم الثبوتية، واضطر الشيخ سعيد ورفاقه إلى الاختباء في بطن السفينة (الخن) لمدّة ثلاثة أيام لحين انطلاق الباخرة في طريقها إلى محطتها الأخيرة باتجاه الكويت.
في الكويت، وعند رسوّ الباخرة فوجئ الشيخ سعيد ومن معه بأن جواز جمهورية اليمن الشعبية لا يعطي حامليه حق دخول الكويت بسبب الموقف السياسي للكويت من نشأة تلك الدولة، فاضطروا للذهاب إلى البصرة حيث نزلوا في (العشّار) وأقاموا في فندق (نزهة المؤمنين) المطل على نهر العشّار وكان يقع في وسط المقام مقابل سوق حنّا الشيخ، وفي البصرة تعرضوا للاعتقال كونهم دخلوا البلاد بصورة غير قانونية، وعندما عَلِم صاحب الفندق الذي نزلوا فيه بذلك ذهب إلى قسم الشرطة وأخرجهم بكفالة وضمان شخصي من قبَله، ثم عُرِضوا على إحدى المحاكم وتم اتهامهم بالتجسس لصالح حكومة الكويت، واضطروا لتهريب بعض مرافقيهم إلى الكويت عن طريق أصحاب التكاسي، بينما ذهب الشيخ سعيد إلى سفارة جمهورية اليمن الشمالي في بغداد، وهناك تم منحهم تصريح دخول إلى الكويت صالح لمدة شهر فقط، ومن هناك توجهوا إلى الكويت حيث حصلوا في اليوم التالي لوصولهم على جوازات سفر صادرة من مكتب إمامة عُمان في الكويت.
ومن المواقف المرتبطة بتلك الرحلة والتي ما تزال عالقة في ذهن الشيخ سعيد ووجدانه، أنه كان من ضمن مرافقيه شخص يدعى سعيد بن محمد عبد الولي باعوين، وكان يجيد قول الشعر، وعند وداعه لأبناء مدينته قال بضعة أبيات تنبأ فيها بالأوضاع السياسية وتداعياتها:
ودّعتكم أهل الوطن من شيبِ وشبّ ... هذا المشلّة والمراح
هذي السنة دارت حميّة.. الخير انقطع والشر قايم والصياح
وقد توفي الشاعر سعيد بن عبد الولي بعد فترة قليلة من وصوله إلى الكويت، وبدا وكأنه كان يودع أبناء مدينته أثناء خروجه منها ونظمه للأبيات السابقة، وكان رجلًا خبيرًا بالأسفار، مطّلعًا على الأوضاع، وقد استفاد الشيخ سعيد ورفاقه من مشورته وآرائه خلال رحلة السفر إلى الكويت.
في الكويت مرةً أخرى
عندما ذهب الشيخ سعيد بن علي السعدوني إلى مقر عمله في وزارة الأشغال العامة لم يجد طاقم الموظفين الذين كان يعمل معهم قبل فترة الإجازة، وعندما تواصل مع أحدهم وكان يدعى أحمد المعلّم علِم منه أنه قد افتتح صيدليّة خاصة وطلب منه المعلّم أن يلتحق بالعمل معه لسابق معرفته بالشيخ سعيد وإمكاناته الوظيفية، والجهد الذي كان يبذله في عمله، فوافق الشيخ والتحق بعمله الجديد كمحاسب.
في خدمة الوطن ..والسلطان
ظل الشيخ سعيد بن علي السعدوني في عمله الجديد بصيدلية أحمد المعلّم لحوالي عامين ونصف عندما تواردت الأنباء عن تغيير نظام الحكم في عمان وتولي السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه- مقاليد الحكم، وإعلانه العفو العام عن حاملي السلاح ومعارضي نظام الحكم السابق، بالإضافة إلى دعوته لأبناء عمان في الخارج للعودة من أجل الإسهام في بناء وطنهم والمشاركة في تنميته، وكان لهذا الخبر وقع السعادة والتفاؤل في نفس الشيخ سعيد الذي كان ينظر بحزن إلى ما يجري من أوضاع سياسية واجتماعية في بلده، والإعدامات التي تعرض لها مجموعة من أقاربه وأبناء مدينته، فقرّر الرجوع في أقرب وقت للوقوف بجوار النظام الجديد ودعمه من أجل تحقيق المطالب التي وعد بها.
عند التأكد من الخبر الخاص بتغيير نظام الحكم في عمان قرّر الشيخ سعيد بن علي مع مجموعة من رفاقه تشكيل وفد يتكون من ستة أشخاص يسافر إلى عمان بهدف المباركة للسلطان الجديد بتولي مقاليد الحكم، والتعهد بدعمه والوقوف إلى جواره ومساندته، وكان تشكيل وفدٍ كهذا وقتها عملًا صعبًا وتحديًا كبيرًا في ظل الدعاية الكبيرة التي كان يمارسها الجهاز الإعلامي للجبهة، وتأييد شريحة كبيرة من الشباب العاملين في الكويت وبلدان الخليج الأخرى لها.
تحرّك الوفد، وكان يضم كلًا من الشيخ سعيد السعدوني رئيسًا، والشيخ سالم عامر زعبنوت، والشيخ محمد بن عبد الولي باعوين، والشيخ سعيد عيسى كلفوت شورت حاردان، والشيخ أحمد سهيل عاكاس حاردان، وشخص سادس، من الكويت في طريقه إلى عمان مرورًا بدبي التي وصلته بها رسالة عاجلة تحمل في فحواها طلب من القيادة الجديدة في ضرورة سفره إلى مسقط بأسرع وقت، فسافر مع أعضاء الوفد، حيث نزلت الطائرة في مطار (بيت الفلج)، وهناك استقبلهم السيد ثويني بن شهاب ثم نزلوا في أحد بيوت الضيافة لحين توفير طائرة تقلّهم إلى صلالة.
في اليوم التالي من وصولهم إلى مسقط أخبرهم السيد ثويني بن شهاب أنهم لم يتمكنوا من توفير ستة مقاعد على متن الطائرة المتجهة إلى صلالة، وأنه لا يتوفر سوى مقعدين فقط فتم التوافق على سفر الشيخ سعيد بن علي السعدوني ومعه محمد بن عبد الولي باعوين على أن يلحق بهم بقية أعضاء الوفد في أقرب رحلة متجهة إلى صلالة.
عند وصولهم إلى صلالة كان الموكّل باستقبالهم هناك، سعيد بن علي بن سهيل جيح قطن وهو أحد مؤسسي قوات الفرق الوطنية وأحد الرجال الوطنيين الذين أسهموا في النهضة المباركة منذ انطلاقتها، ثم قابلوا الشيخ بريك بن حمود الغافري والي ظفار، والشيخ عيسى بن أحمد المعشني وأخاه الشيخ مستهيل، والشيخ هلال بن سلطان الحوسني المسؤول الأمني لظفار وقتها.
تشكيل فرقة طارق بن زياد:
بعد وصول الشيخ سعيد ورفاقه إلى صلالة بفترة، كان اللقاء الأول لهم مع السلطان قابوس بن سعيد، وقد تمخّض اللقاء عن عدد من النقاط من بينها تأكيد الشيخ سعيد ورفاقه على دعمهم للجهود التي يبذلها السلطان في سبيل إعادة توحيد البلاد. كما قدّموا للسلطان رسالة تحوي مرئياتهم وأهدافهم، وفي اللقاء الثاني أقسموا اليمين أمام جلالته بالإخلاص والوفاء له. كما تمخّض عن تلك اللقاءات طرح فكرة تأسيس فرقة وطنية أسوة بالفرق التي تأسست في المناطق الأخرى من ظفار مثل فرقة (صلاح الدين)، و(العاصفة)، و(خالد بن الوليد)، و(العمري)، و(جمال عبد الناصر)، فكان تأسيس فرقة (طارق بن زياد) في منتصف عام 1971م.
وتعد فرقة (طارق بن زياد) من أوائل قوات الفرق التي تأسست وكانت خاصة بأبناء المنطقة الغربية، وقد تشكّلت الفرقة من حوالي (40) شخصًا كانوا يعملون في دولة الكويت. كما انضم لها عدد من المقاتلين الذين انشقوا عن قوات الجبهة.
كان أول مركز للفرقة في منطقة (ثقبيت) شمال رخيوت، ثم انتقلت إلى (عيدم) في بادية رخيوت، وعندما كثرت أعداد المقاتلين المنضمين إليها وتم تحرير المنطقة تم تحويل الفرقة إلى مجموعة فرق خاصة بقبائل المنطقة الغربية تحت مسمى (أمن الأرياف).
كان الشيخ سعيد بن علي من مؤسسي هذه الفرقة، وهو الذي اختار لها هذا الاسم الذي يعود إلى أحد القادة المسلمين الذين أسهموا في الفتوحات الإسلامية وبالأخص في المناطق الغربية من العالم الإسلامي في شمال أفريقيا والأندلس، وقد أخبر الشيخ بريك بن حمود الغافري والي ظفار وقتها بمقترحه هذا فباركه ورفعه إلى القيادة العليا، وقد تدرّبت أول دفعة على حمل السلاح واستخدامه في معسكر المعمورة لمدة (21) يوما.
خلال فترة تأسيس فرقة طارق بن زياد كان الشيخ سعيد بن علي يقيم في الحصن كمسؤول مدني عن المنطقة الغربية، ومن مكتبه هناك كان يدير الأعمال الميدانية والإدارية المتعلقة بالفرقة، وبعد انتهاء الحرب انتقل إلى حي (الحافة).
كان الشيخ سعيد خلال الفترة من نهاية عام 1970م وحتى توليه منصب نائب والي رخيوت في ديسمبر عام 1974م يقوم بدور المنسّق المدني والعسكري بين الحكومة والمواطنين، ومشرف منطقة القمر (المنطقة الغربيّة)، ومنسّق القادمين من الخليج ومناطق سيطرة الجبهة الراغبين في الالتحاق بالفرقة. كما كان منسّقًا للجهود ما بين فرقة طارق بن زياد وقوات السلطان المسلّحة، وكان لديه تواصل مباشر مع السيد فهر بن تيمور.
كما كان للشيخ سعيد بن علي دورٌ مهم في مجال التوجيه المعنوي والدعاية المضادّة، من خلال الفقرات الإذاعية التي كان يقدّمها، والمنشورات التي كان يعدّها، والتي تركز على الجهود التي تبذلها الحكومة وسعيها إلى توحيد تراب الوطن، وتفنيد الدعاية المغرضة التي كانت تبثّها قنوات الجبهة الإعلاميّة، وتشكيكهم في الجهود المبذولة من قبل السلطان قابوس وجيشة وحكومته.
نائب والي ظفار في رخيوت:
عندما استعادت قوات السلطان المسلّحة مدينة رخيوت في ديسمبر 1974م كان الشيخ سعيد بن علي السعدوني أول من دخلها برفقة الشيخ بريك الغافري والي ظفار وقتها وأحد القادة الميدانيين البريطانيين، وكانت المدينة عبارة عن كومة من الخراب.
وبعد فترة وجيزة قام الشيخ سعيد بزيارة أخرى وكان يرافقه خلالها عدد من المسؤولين والأعيان من بينهم الشيخ عيسى بن أحمد المعشني الذي ذرفت عيناه بالدموع عندما نزلت الطائرة رخيوت، وعندما سأله الشيخ بريك الغافري عن سبب تأثره وبكائه أجاب: " كيف لا أبكي يا بريك ورخيوت لا أرى فيها ولو طيرة!”، في دلالة على تبدل الحال في هذه المدينة التاريخية التي كانت يومًا ما عامرة بالحياة، زاخرة بالنشاط الاقتصادي والاجتماعي والعلمي!
وقد تم تعيين الشيخ سعيد بن علي السعدوني نائبا لوالي ظفار في رخيوت، وكان النظام الإداري في ظفار وقتها يتكون من منصب (والي ظفار) الذي تحول فيما بعد إلى (محافظ ظفار)، وعدد من النوّاب في مدن ظفار الرئيسة كسدح، ومرباط، وطاقة، ورخيوت، وضلكوت، وكان منصب نائب الوالي يوازي منصب الوالي كونه المسؤول عن الأنشطة الإدارية والخدمات الحكومية المختلفة في المدن التي يشرف عليها.
وقد أتى اختيار الشيخ سعيد كنائب لوالي ظفار في رخيوت لعدة أسباب من بينها: كونه من أبناء المدينة ومن أسرة تولت المشيخة فيها لعقود عديدة وبالتالي فهو أدرى بظروف المدينة واحتياجاتها في تلك الفترة العصيبة وفي ظل الحاجة إلى إعادة الحياة إليها، وبعثها من جديد. بالإضافة إلى الجهود الكبيرة التي بذلها الشيخ سواءً من حيث إشرافه على فرقة طارق بن زياد التي أسهمت في تحرير المدينة، أو من خلال دوره التنسيقي والإعلامي وقدرته على إقناع شرائح مجتمعية عديدة بمدى صدق الجهود التي يبذلها السلطان وحكومته.
وكان أول تحدٍ يواجه الشيخ سعيد بن علي وطاقمه الإداري هو الإجابة عن تساؤل مهم: كيف يمكن أن تعود الحياة إلى هذه المدينة العريقة؟ وكيف يمكن انتشالها وسط هذا الدمار الذي حلّ بها؟ وكيف يمكن إعادة توطين أهلها الذين هجروها إلى أماكن مختلفة؟
لذا، فقد عمل الشيخ سعيد ومن معه وبالتنسيق مع الجهاز الإداري والعسكري في ظفار من أول يومٍ وطأت أقدامهم المدينة من أجل إعادة الروح إليها، وكان الشيخ يدير أعماله ومهامه من بيت الأسرة في ظل عدم وجود مبنى حكومي، وتم وضع خطّة زمنية تستهدف إعادة الخدمات، وتوفير السكن المناسب للمواطنين، وكان من ضمن نقاط تلك الخطّة تشكيل لجنة مهمتها الإشراف على تعمير المدينة.
تم تشكيل اللجنة من خمسة أشخاص من أعيان المدينة للإشراف على المشروعات في المدينة، واستقبال أهالي المنطقة، وهم: الشيخ سعيد بن علي السعدوني، وأحمد بن مبارك مستهيل شماس، وأحمد سهيل أجهام حاردان، ومحمد عبدالله فتح زعبنوت، ومحمد أحمد عبد الولي باعوين.
وكان من ضمن المشروعات المستعجلة في المدينة: بناء مسجد كبير لتأدية الشعائر الدينية بعد انقطاعها أثناء سيطرة قوات الجبهة على المدينة، وبناء مركز استقبال، والمباشرة في ترميم بيوت المواطنين في المدينة، وقد بدأ العمل الفعلي في هذا المشروع مباشرة.
كما أدّى الشيخ سعيد بن علي دورًا مهمًا في إيصال المساعدات والمؤن الغذائية إلى سكّان المدينة العائدين في ظل صعوبة المواصلات البرّيّة، وقد كانت تلك المؤن تصل عن طريق اللنشات البحرية أو طائرات الهليكوبتر العسكرية.
وقام الشيخ سعيد بن علي بدورٍ آخر لا يقل أهمية، ألا وهو متابعة الأوضاع الاجتماعية والإنسانية لأسر الشهداء ومنسوبي فرقة طارق بن زياد، وكذلك الأسر التي عادت إلى المدينة، وكان يقوم بتدوين المعلومات والبيانات المتعلقة بها، واحتياجاتهم المختلفة، ورفعها إلى المسؤولين في مكتب والي ظفار.
ومن ضمن المشروعات التي تم افتتاحها خلال فترة تولي الشيخ سعيد بن علي لمنصب نائب والي رخيوت، افتتاح المبنى الجديد لمدرسة رخيوت الابتدائية وقتها تحت رعاية وزير التربية والتعليم آنذاك معالي أحمد بن عبدالله الغزالي وبحضور عدد من المسؤولين.
وكان الشيخ سعيد مهتمًا بالمدرسة وأنشطتها، حريصًا على دعمها، وكان في بعض الأحيان يقوم بدعوة طاقم المدرسة الإداري والطلاب إلى منزله لعرض بعض المواد المرئية التاريخية والتوعوية. كما كان يرعى احتفالات المدرسة، وقام من خلال كاميرته بتوثيق عدد من المناشط المختلفة لها.
ومن ضمن المشروعات التي شهدتها رخيوت كذلك خلال فترة وجود الشيخ سعيد بن علي السعدوني، تشييد المركز الإداري بالمدينة، الذي اشتمل على عدة مبانٍ لكافة مرافق الخدمات من بينها سكن لنائب الوالي، ومكاتب لفروع بعض الدوائر الحكومية، ومركز للشرطة، ومسجد، ومستشفى، ومساكن للمسؤولين العاملين بالمدينة، بالإضافة إلى محطة توليد الطاقة الكهربائية، وخزّان كبير للمياه.
في مجلس الشورى:
في عام 1988م قدّم الشيخ سعيد بن علي السعدوني استقالته إلى مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار لأسباب خاصة، لكن السلطان قابوس عندما سمع عن أمر الاستقالة أصدر أوامره بتعيين الشيخ سعيد مستشارًا بمكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار وتخصيص مكتبٍ خاصٍ له.
وظل الشيخ سعيد بن علي يمارس مهام عمله كمستشار حتى عام 1997م عندما تم تعيينه عضوًا في مجلس الشورى ممثلًا لولاية رخيوت خلال الفترة من الأول من ديسمبر 1997وحتى 30 نوفمبر 2000 من خلال مطالبات أهلية بذلك.
وخلال فترة عضويته في المجلس كان للشيخ سعيد بن علي عدد من المطالبات التنموية المتعلقة بولاية رخيوت، وكان كثيرًا ما يقوم بمقابلة المسؤولين في الوزارات الخدمية لتقديم تلك المطالب ومناقشة أهمية تنفيذها.
إلى مجلس الدولة:
في نوفمبر من عام 2011م صدر المرسوم السلطاني رقم (107/2007) بتعيين أعضاء مجلس الدولة، وكان الشيخ سعيد بن علي السعدوني ضمن الأعضاء الذين حظوا بالثقة السامية عرفانًا بالجهود الكبيرة التي بذلها في سبيل وحدة تراب هذا الوطن ورفعة شأنه متحديًا كثيرًا من المخاطر التي كانت تواجهه وتهدد حياته شخصيًا نظرًا لطبيعة تلك المرحلة. كما كان تقديرًا لجهود الشيخ في توطين الأهالي وإعادة بناء مدينة رخيوت التي استلمتها القوات الحكومية نهاية عام 1974 كمدينة أشباح بعد أن هجرها أهلها، وعاثت بها يد الفساد، فقام الشيخ سعيد بكثير من الجهد من أجل إعادة الحياة إلى تلك المدينة التاريخية، وتكللت تلك الجهود بالعديد من المنجزات.
أدوار أخرى:
عدا عن الأدوار الكبيرة التي قام بها الشيخ سعيد بن علي بن عوض السعدوني خلال (45) عامًا من خدمته لوطنه سياسيًا، وإداريًا، وأمنيًا، وإعلاميًا، وبرلمانيًا، فإن إخلاص هذا الرجل العَلَم لوطنه لم يعرف يومًا النضوب أو الخفوت، فكما خدمها من مكتب المسؤول فقد خدمها بفكره واستشارته، ومن بين تلك الأدوار: دوره في عملية ترسيم الحدود العمانية مع اليمن عن طريق الوثائق الرسمية التي توارثها عن أجداده، حيث أسهمت تلك الوثائق إيجابًا لصالح سلطنة عمان في عملية تحديد الحدود المشتركة.
كما أسهمت الملاحظات التي قدّمها الشيخ سعيد في تخفيض تكاليف طريق جبل القمر طريق اقيشان الممتد من المغسيل إلى الغربية حيث قدم للمهندسين في شركة بلفور بيتي البريطانية مسارات مختصرة، وآمنة، وقلّل التكاليف والزمن.
العلاقة مع الكاميرا:
بدأت علاقة الشيخ سعيد بن علي السعدوني مع الكاميرا أثناء إقامته في الكويت، حيث كان شغوفًا بالإعلام، حريصًا على متابعة الصحافة المحلية والعربية، واقتناء أعداد من الصحف والمجلات التي كانت تصدر وقتها والتي كان يستنزف شرائها أحيانًا نصف مرتّبه الذي يحصل عليه شهريًا، ثم فكّر الشيخ سعيد في شراء كاميرا يوثّق من خلالها أحداث حياته اليوميّة، والفعاليات والمناشط التي يصادفها أو يشترك فيها، وكان له ذلك.
وأثناء وجوده في عدن خلال رحلة عودته من الكويت إلى رخيوت عام 1966م وانتظاره للسفن المتجهة إلى ظفار، استغل الشيخ سعيد الفرصة وتعلّم فنون تحميض الصور في أحد محلات التصوير بعدن، ومن هناك اشترى كميّة من الأفلام الخام تكفي مدّة بقائه في رخيوت.
وخلال رحلته من الكويت إلى عدن ومنها إلى رخيوت مرورًا بعدد من البنادر ثم خلال مكوثه في رخيوت بين عامي 1966 و1968 قام الشيخ سعيد بن علي بتوثيق العديد من الفعاليات والأحداث وملامح الحياة اليومية من خلال الكاميرا التي يحملها. كما قام بتوثيق جانب من التراث المادّي المرتبط بالمدينة مثل الحصن، والحارة القديمة، والشاطئ وغيرها من الشواهد.
وفي عهد النهضة قام الشيخ سعيد بن علي بافتتاح أستوديو تصوير في مدينة صلالة كان يعد من بين المحلات ذات الريادة في هذا المجال.
المراجع:
1- السعدوني، محمد بن سعيد. مقابلة شخصية، الثلاثاء، 3 سبتمبر 2024، صلالة.
2- السعدوني، يوسف بن فارح. رخيوت من وحي الذاكرة، مؤسسة اللبان للنشر، مسقط، 2023.
3- الشيخ سعيد بن علي السعدوني. مقابلة شخصية، الثلاثاء، 3 سبتمبر 2024، عوقد، صلالة، سلطنة عمان.
4- العمري، محمد سعيد دريبي. ظفار الثورة في التاريخ العماني، دار رياض الرّيّس، لندن، 2004.
5- المشهور، حسين بن علي. تاريخ ظفار التجاري، مطابع ظفار الوطنية، بدون تاريخ.
6- المعشني، أحمد بن مسعود. معجم أحلاف ظفار، الجزء الثاني، الشركة القومية للتوزيع، مصر، 2019.
7- المعشني، أحمد بن مسعود. معجم أحلاف ظفار، الجزء الثالث، دار الأمل للطباعة، القاهرة، 2021.
8- أعداد مختلفة من جريدة عمان.
9- أعداد مختلفة من مجلة العقيدة.
· الصور من أرشيف الشيخ سعيد بن علي السعدوني