محمد حسن – كاتب وباحث سوري
في عالم اليوم، تعيش النخب الأوروبية والأميركية، ومعها النخب الأكاديمية والإعلامية والبيروقراطية في مختلف أنحاء العالم، داخل فقاعة فكرية مغلقة. هذه النخب، المرتبطة بالهيئات الدولية والشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الكبرى، ما زالت تعتقد جازمةً أن سوء أوضاع العالم لا يعود إلى طبيعة النظام الاقتصادي العالمي أو إلى علاقات الاستغلال البنيوية، بل إلى حفنة من الطغاة الذين يتصفون بالعناد والطموح، وبعض الأنظمة السياسية المتصلبة التي تعتقل ناشطي حقوق الإنسان وتقمع الحريات وتقيّد حرية تداول المعلومات.
على هذا الأساس، بنى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، ومعه قادة أوروبيون آخرون، خطاباً أخلاقياً متكرراً ومفرطاً في وعظه. خطاب بدا كاريكاتورياً، أجوفَ، ومفعماً بالاستعلاء، يؤنب كل من لا يدور في فلك الغرب، إذ جعل من ”نشر الحرية وحقوق الإنسان“ وسيلة للتدخلات والتأثير في شؤون الدول الأخرى. ولم يتأخر صدى هذا الخطاب في الانتشار؛ فالأوساط الأكاديمية والإعلامية تبنّت مفاهيم جديدة مثل ”الحوكمة“، ”الشفافية“، ”التنمية المستدامة“، ”المساءلة“، وغيرها من المصطلحات المستوردة من العالم الأنكلو-سكسوني. مفاهيم معقدة في ظاهرها، لكنها في الجوهر فارغة من أي إحالة إلى البنى الفعلية للاستغلال أو التفاوت الاقتصادي، فتحولت إلى مجرد شعارات متداولة في خطاب لا يمت إلى الواقع بصلة. هذا الاستخدام المزدوج لمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان أفقدها صدقيتها. إذ بدا وكأنها أدوات للهيمنة والتدخل، وأفرغها من القيم الإنسانية المشتركة. خير مثال على ذلك العقوبات الاقتصادية المتعسفة التي تُفرض بحق بعض الأنظمة التي تشذ عن الركب الغربي، مستفيدةً من الغطاء التي تؤمنه لها قرارات مجلس الأمن. فالعقوبات الاقتصادية، التي فُرضت على العراق بين عامي 1990 و2003، أظهرت ذلك بوضوح: فهي لم تمسّ النخب الحاكمة ولا شبكاتها الاقتصادية، بل سحقت الطبقات الفقيرة والوسطى، وأدت إلى انهيار النظام الصحي وارتفاع مذهل في وفيات الأطفال.
هذا ما رأيناه يتكرر في سورية في ظل الإجراءات القسرية أحادية الجانب التي فرضت عليها وأدت إلى تدمير بناها الاجتماعية والاقتصادية حتى فتكت ببنية الدولة نفسها من الداخل وأدخلت البلاد في دوامة من الفساد وأدت إلى إفقار عام للبلاد وهذا ما يمكن أن يندرج في حالتي سورية والعراق في مفهوم الجريمة ضد الإنسانية. تماماً مثل تجارب الفلسطينيين واللبنانيين تحت القصف الإسرائيلي العشوائي المتواصل الذي لم يحرك الغرب ساكناً من أجله مما جعل العداء للغرب أكثر رسوخاً، وكشف حدود الخطاب الغربي الذي يرفع شعارات الحرية والعدالة بينما يغضّ الطرف عن المعاناة الإنسانية المباشرة. وعلى العكس من ذلك دعم الغرب في أميركا اللاتينية، الديكتاتوريات العسكرية والانقلابات، حتى لو استهدفت الحكومات المنتخبة ديمقراطياً، كما حصل في تشيلي عام ١٩٧٣.
وعوض مواجهة التعقيدات الميدانية للأوضاع المحلية، فضّلت السياسات الأميركية والأوروبية الاستثمار في تقسيم المجتمعات والتسبب بشقاقات عميقة في صلب الرأي العام، آملةً بإمكانية أي تغيير يطرأ على النظام السياسي فيها لاستبداله بآخر أكثر خضوعاً لمصالح الغرب. حيث يتم العمل على إيجاد فئات سكانية على أسس إثنية أو دينية، أو جغرافية ويتم تصنيفها جماعياً إلى فئات: موالية للغرب أو معادية له. الفئة الأولى يتم تمجيدها وتقديمها بطريقة مثالية متناسين ربما ماضيها القذر وتقديم قادتها كمناضلين من أجل الحرية، حتى لو كانوا متورطين في الفساد والقمع والقتل الوحشي والمجازر. أما الفئة الثانية، فيتم وصفها بأبشع النعوت، المتزمتة أو الأصولية أو الموالية لروسيا أو إيران أو القومية ”المتخلفة“، ويتم شيطنتها في الخطاب الإعلامي والسياسي.
من صربيا إلى فنزويلا وكوبا، مروراً بجورجيا وأوكرانيا ولبنان، وسورية يتكرر السيناريو ذاته: إنهاك سياسي وإعلامي للسلطات المحلية وتقديم دعم غير محدود لحلفاء جدد غالباً ما يتحولون بسرعة ربما من شيوعيين سابقين إلى رأسماليين متوحشين، من مقاتلين في تنظيم القاعدة وأسماؤهم الموضوعة على لوائح الإرهاب العالمية موسومة بجرائم القتل والتعذيب والإبادة إلى مناضلين من أجل الحرية موالين لأوروبا والغرب، مع تشويه ممنهج وأبلسة أي شخص يعارضهم عبر ماكينة إعلامية لا تهدأ، ويرافق ذلك تمويل واسع للمنظمات غير الحكومية المحلية التي تردد خطاب ”حقوق الإنسان“ بنسخته الغربية، وتدخل مباشر في الحملات الانتخابية، تحت شعار مراقبة ”نزاهتها“.
فتجربة الخمير الحمر تكشف بوضوح التناقض العميق في سلوك القوى الغربية إزاء ما ترفعه من شعارات عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. فعلى الرغم من الإدانات العلنية للمجازر التي ارتكبها النظام الشيوعي المتطرف في كمبوديا، فإن السياسات الفعلية لتلك القوى جاءت على النقيض تماماً. فقد لجأ الغرب، بدافع صراع الحرب الباردة وعدائه للنفوذ الفيتنامي والسوفييتي، إلى توفير أشكال مختلفة من الدعم غير المباشر للخمير الحمر، سواء عبر المناورات السياسية والدبلوماسية أو حتى من خلال مؤسسات الأمم المتحدة، مما منح الحركة غطاءً مكّنها من الاحتفاظ بموقعها على الساحة الدولية سنوات طويلة بعد انهيار نظامها الدموي. ولم يقف التواطؤ عند هذا الحد، بل امتد إلى ملف العدالة ذاته، حيث جرى إرجاء محاكمة قادة الحركة لعقود، الأمر الذي سمح لهم بالإفلات من المساءلة فيما كان الضحايا عالقين في انتظار الاعتراف والإنصاف. إن هذه المفارقة تفضح كيف يمكن للسياسة الدولية أن تنقلب إلى أداة لحماية المجرمين، وتجعل من مأساة الخمير الحمر مثالاً فاضحاً على ازدواجية المعايير حين تتقدّم الحسابات الجيوسياسية على أبسط مقتضيات العدالة الإنسانية.
هذا التسييس لمؤسسات الأمم المتحدة ومؤسسات الجنائية الدولية أمر لا يمكن إنكاره، إذ نادراً ما نرى هذه المؤسسات تتحرك ضد المتورطين في جرائم جماعية أو أعمال عنف واسعة النطاق عندما يكونون في موقع الولاء للغرب أو يشكّلون أوراقاً سياسية نافعة له. في مثل هذه الحالات، تُفرض حالة من الصمت الممنهج والتعتيم الكامل على الجرائم، بل قد يُعاد تقديم الجلادين أنفسهم بوصفهم روّاداً للإصلاح وأبطالاً لـ”الانتقال الديمقراطي“ في بلدانهم، كما تصوّرهم دوائر القرار والإعلام الغربي.
بهذا النهج، يساهم الغرب نفسه في إعاقة تعميم قيم ديمقراطية مشتركة، بل وتفريغها من معناها وتحويلها إلى أداة للصراع الجيوسياسي. والنتيجة أن الديمقراطية، بدل أن تكون أفقاً مشتركاً للبشرية، تحولت إلى هرجة هزلية فاقدة للجدية، يغلب عليها الطابع الانتقائي والانتهازي، وتزرع الشقاقات أكثر مما تفتح أبواب التفاهم والعدالة