أثير- جميلة العبرية
تضمنت الندوة العلمية «ظفار في ذاكرة التاريخ العُماني» لهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في مدينة صلالة خلال الفترة من 14-16 سبتمبر الجاري ورقة علمية بعنوان “الوثائق الخاصة مصدرًا لتاريخ الحياة الاجتماعية والثقافية في ظفار (7–14هـ / 13–20م) – الوقف أنموذجًا” قدّمها نبيل بن ماجد العبري.
الدافع العلمي
العبري أوضح لـ “أثير” أن الدافع العلمي الأساسي من البحث هو أن الوثائق الخاصة تمنحنا نافذةً إلى حياة الناس اليومية نواياهم، وعلاقاتهم، وأولوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والقيمية بخلاف السجلات الرسمية التي تميل للتعبير عن مواقف الدولة والإدارة ومؤشراتها المؤسسية. كما أن الوصايا وصكوك الوقف تكشف عن ملكيات فردية، وشبكات قرابية، وتعريفات للهوية المحلية، وأدوار اجتماعية لم توثّقها دوائر الحكم نميزها عن السجلات الرسمية بأن الأولى مباشرةً تعبر عن أصوات الفاعلين المحليين (الموقِفين، والورثة، والأوقاف المجتمعية)، وتحتوي على صيغ لغوية محلية، وأحكام عرفية، وشروط تفصيلية لإدارة المال والوقف، بينما السجلات الرسمية أكثر تجريدًا وتركز على التسجيل الإداري والحكم.

لماذا الفترة 7–14هـ / 13–20م؟
ذكر العبري بأن اختيار هذه الفترة جاء لعدة أسباب منهجية: هي محاولة لتتبع الجذور التاريخية للوقف وفق الإشارات التاريخية المتوفرة. كما أنها تغطي فترات انتقالية في أنماط التحولات المجتمعية والاقتصادية وتحولات في الصيغ الشرعية للأوقاف، كذلك كانت الوثائق المتاحة مركزة في هذه الحقبة؛ ما جعل التحليل المقارن ممكنًا.
تطور لغة الصيغ الوقفية ومضامينها
أشار العبري إلى الفروق الزمنية في لغة الصيغ الوقفية ومضامينها عبر القرون فذكر أن الملاحظة العامة تشمل الصيغ المبكرة أكثر اختصارًا وارتباطًا بالعرف المحلي (تعابير محددة للواجبات والتمليك)، بينما الصيغ اللاحقة تظهر تطورًا نحو الرسميّة القانونية وإدخال مصطلحات شرعية دقيقة وتنظيمات إدارية أوسع، ومع الزمن نرى تزايدًا في شروط الحماية من التعدي، تفصيلًا لجهات التنفيذ، ونماذج لحساب الإيراد والإنفاق بدقة أكبر ما يعكس تطور مفهوم الوقف من فعل فردي خيري إلى مؤسسة ذات آليات إدارية وقيود قانونية.

أنواع الأوقاف
وعن أنواع الأوقاف الأشيع في ظفار خلال الفترة المدروسة أوضح العبري أن أكثر الأنواع ظهورًا: أوقاف دينية (مساجد، ومناسبات دينية، وقراءة قرآن، ورواتب أئمة)، وأوقاف خيرية (إطعام الفقراء، وكسوة)، وأوقاف إنتاجية/عقارية (أراضٍ زراعية). وكل نوع ترك أثرًا مختلفًا: الأوقاف الدينية دعمت استمرارية المؤسسات الدينية والتعليمية المحلية، والأوقاف الخيرية أسهمت في شبكة أمان اجتماعي ومحافظة على سمعة العائلات المانحة، والأوقاف الإنتاجية وفرت دخلًا مستدامًا يُعيد استثمارًا محليًا ويعزز مكانة بعض العائلات أو التجمعات الحرفية.
شهادة لا تُنسى من الأرشيف
ويخبرنا العبري عن أقوى شهادة أو نص صادفه في رحلة البحث وهي وثيقة الوقف الأهلي/ الذري للشيخ العفيف بن أحمد لأحفاده وذريته والصياغة الدينية واللغوية لهذه الوثيقة وتحديد المدى الزمني لهذا الوقف وبيان الأسباب المُلزمة لتغيير مصرف الوقف في حال وقوع دواعٍ ذلك والتي ورد ذكرها نصا في الوثيقة وبيان وتحديد المصرف البديل للوقف.

النسيج الاجتماعي في مرآة الوثائق
وأردف: الوثائق تذكر أسماء المعنيين، وطرق تحديد المستفيدين، وشروط الإرث والوصاية، وتعليمات حول من يُعطى وما يستحقه ومن هنا يمكن تتبع مواقع الفئات (تجار، وملاّك أراضٍ، ومزارعين، وحرفيين)، كذلك تظهر صيغ التعارف والقرابة، واشتراطات أخلاقية أو عرفية (منع بيع الوقف، وعقوبات للتعدي) التي تكشف الأعراف الاجتماعية، بنمط التوزيع وفئات المستفيدين نستنتج ترتيبا اجتماعيا ولوائح الأولوية داخل المجتمع.
التركيبة السكانية
وبين العبري أن الوثائق تكشف عن التركيبة السكانية لسكان محافظة ظفار حيث تعدد فئات المجتمع والتي أمكن حصرها من خلال معرفة الواقفين، مع محاولة معرفة جغرافية تمركز هذه الأوقاف وحركات الاستيطان، إضافة إلى وجود أوقاف على طريق الهجرات السكانية كزوايا سقيا الماء.
صورة الاقتصاد المحلي وإدارة الإيرادات
وأضاف: ترسم الوثائق اقتصادًا متعدد المكوّنات منها زراعة محلية محدودة، وموارد اقتصادية متنوعة، وإدارة إيرادات الأوقاف كانت غالبًا محلية عبر تحديد موارد معينة (حصة من أرض زراعية، ودخل من محل، أو حصة من تجارتين) تُحصّل إما بواسطة الوصي أو عبر وكلاء مع شروط توزيع مفصّلة (إطعام، ورواتب علماء، وصيانة)، وهناك وثائق عديدة تضمنت آليات للرقابة المحلية (شهود، وسجلات دفع، وعقوبات على التقصير).
إدارة الوقف وحل النزاعات
وعن طبيعة علاقة الدولة والقضاء بإدارة الوقف في ظفار، وكيف عالجت الوثائق النزاعات أو المخاطر، أوضح العبري أن العلاقة كانت ذات طابع تفاوضي وتكاملي فالقضاء أو سلطة الحاكم يظهر تدخله في تأكيد الصكوك أو فض النزاعات، لكن جزءًا كبيرًا من الإدارة ظلّ عرفيًا ومحليًا، وتحوي الوثائق نصوصًا لحل النزاعات (شهود، منح حق التنفيذ لجهة معينة) وإجراءات حماية من الضياع (منع البيع، وحجز سندات ووضع شهود)، وعند حدوث كوارث أو تعديات، نجد توثيقًا لإعادة التنظيم أو إدخال شروط تعويضية أو تعديل المستفيدين.
المرأة الظفارية
وعرّج العبري إلى إسهامات المرأة الظفارية في الوقف حيث ذكر أن المرأة ظهرت كمانحة وموصية وواقفة وأحيانًا كمستفيدة، ومشاركتها غالبًا كانت في أوقاف خيرية ودينية (وقف لقراءة قرآن، وصيانة مسجد، أو توزيع على أقارب وفقراء)، وفي بعض الحالات أوقفت أراضي أو موارد إنتاجية، ودلالة ذلك مزدوجة حيث تُظهر قدرة المرأة على امتلاك ثروة واتخاذ قرار حيالها، وتكشف عن مكانة اجتماعية تجعل لوقفها أثرًا معنويًا وقانونيًا ما يفتح بابًا لإعادة تقييم دور المرأة في الاقتصاد الاجتماعي التاريخي للمنطقة.
من «أرشيف خام» إلى ذاكرة حية
كما بيّن أن التفسير الجيد والعرض المؤسسي للمواقع الوقفية يمكن أن يحوّل الوثائق من «أرشيف خام» إلى موارد تربوية وثقافية، ولوحات تفسيرية، ومعارض رقمية، وبرامج مدرسية تربط بين الماضي والحاضر، وسرديات تثقيفية عن أثر الوقف في التنمية المحلية، فالمهم أن يكون العرض متعدد المستويات؛ أكاديميًا للعُلماء، ومبسطًا للجمهور، وتفاعليًا للمدارس حتى تُستعاد الذاكرة وتُستخدم في تنمية الهوية المحلية.
النتائج والمهددات
واستعرض نبيل العبري في ختام ورقته نتائج تطور الوقف وأنماطه ومصادره ومهدداته، حيث جاءت النتائج الأساسية عبر الوقف في ظفار تطور من فعل فردي بسيط إلى مؤسسة ذات آليات معقدة، ومصادره متنوعة وأنواعه شملت دينيًا واجتماعيا وثقافيا. أما المهددات فتمثلت في تآكل السندات الورقية، والتعدي على الأملاك، وضعف التوثيق، والهجرة التي تغير أنماط الاستفادة، ذاكرًا اقتراحات عملية في هذا الشأن وهي كالآتي:
- رقمنة وأرشفة وتوحيد صيغ الصكوك وحفظ النسخ الأصلية.
- تشريعات محلية تحمي أملاك الوقف وتسهّل آليات المحاسبة والشفافية.
- إدماج قصص الوقف في مناهج محلية ومشروعات توعوية لتعزيز الارتباط المجتمعي.
- شراكات مع جامعات ومراكز بحثية لإعادة تفسير الوثائق بطريقة تطبيقية.