أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
لما كانت رؤية عمان 2040 تضع على التعليم كغيره من قطاعات التنمية الأخرى مسؤولية بناء مجتمع إنسانه مبدع معتز بهويته، مبتكر ومنافس عالميا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام عبر نظام تعليمي شامل وتعلم مستدام وبحث علمي يقود إلى مجتمع معرفي وقدرات وطنية منافسة؛ لذلك تتأكد معادلة القوة التعليمية في بناء الإنسان العماني المعاصر وتجسيد أولويات رؤية عمان 2040 في محور الإنسان والمجتمع في مدى قدرته على احتواء الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية واستيعابها وإعادة إنتاج الممارسة التعليمية لضمان المحافظة على درجة التوازن نحو بناء “مواطن مبدع معتز بهويته، مبتكر ومنافس عالميا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام”، حيث يمثل البعد الاقتصادي بما فيه من وظائف المستقبل والمهارات وبناء القدرات وبناء المشروع وتوجيه مسار الحياة المعيشية، ورفع الدخل وتحقيق الرفاه الاقتصادية، يضاف إليه البعد الاجتماعي بما فيه من المحافظة على بناء الأسرة والعيش في ظلالها، وترسيخ القيم الاجتماعية، وقيم التكافل والتعاون والتضامن والتعاضد، والصورة الجمعية للحياة في ظلال المبادئ والهوية، وبالتالي ما يمثله هذين البعدين من ركيزة أساسية في صناعة الإنسان، ومحطة لتحقيق الأبعاد النفسية والصحية، وترسيخ معايير الذوق الحسن والمشاعر الإيجابية، وخلق روح التفاؤلية والاتزان الفكري والعمق المعرفي في فهم معطيات الحياة وتجاوز مطباتها، وتوظيف الفرص في تحقيق تحول في سلوك المواطن، واستيعاب متطلبات الواقع الذي يعيشه والمهام والواجبات والمسؤوليات المجتمعية التي عليه أن يقوم بها، بما ينعكس على التزامه بالمبادئ والقيم والثوابت وخلق علاقة تكامل وانسجام بين احتياجاته الشخصية ومتطلبات الواقع ومسؤولياته المجتمعية.
من هنا نعتقد بأن الفجوة الحاصلة بين الممارسة التعليمية والواقع الاجتماعي بما تبرزه شواهد الإثبات من حالة القلق والإحباط وضعف الثقة التي يعيشها الأبناء، أو علاقة فردية المصال الشخصية وبرجماتية التصرف ومزاجية التعامل مع الوالدين، وردات الفعل السلبية من الأبناء المترتبة على نصح والديهم لهم أو أحدهما، وتوجيههم وتبصيرهم أو منع الحصول على بعض رغباتهم الذاتية في ظروف معينة باتت تلقي على التعليم توفير معالجات نوعية في مواجهة التراكمات التي باتت تنعكس على علاقة الأبناء بالآباء، وبالتالي مسؤولية التعليم اليوم في البحث في العمق الاجتماعي، وفي المقابل فإن النظرة الضيقة للتعليم في الحصول على الوظائف فقط والتي اختزلت التعليم في الوظيفة والعمل والحصول على مكاسب مادية أفقدت التعليم حضوره الاجتماعي، وسلبت منه اجتماعيته التي يفترض أن تعيد التوازنات لهذا الدور، وتعمل على حفظ درجة الاتزان والتناغم بينها، وأدت إلى تكريس لغة المادة، وتعظيم فقه المقارنات، ونمو ثقافة المصالح، وبرجماتية التصرف وانتشار للأنانيات وحب المصالح، الأمر الذي نتج عنه خلل في الدور الاجتماعي للتعليم فإن ما تمثله القضايا التي تتعامل معها المؤسسات القضائية والقانونية والضبطية والتي بين الأصدقاء والأزواج والاخوة والآباء والأبناء وغيرهم ومشكلات الميراث وحب المظاهر، والتعدي على حقوق الغير، والاختلاس والاحتيال والرشوة وتكالب الديون وعدم الوفاء بالالتزامات الأسرية والاجتماعية خير شاهد على هشاشة هذا الدور، إنما يرجع إلى غربة التعليم عن الواقع الاجتماعي وتفاصيله الدقيقة، لذلك تأتي أهمية تأصيل البعد الاجتماعي في التعليم، في تكامل بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، والبحث في العمق الاجتماعي وتأطيره في فلسفة التعليم.
وتبقى معادلة التكامل التي يجب أن يطرحها تعليم المستقبل مرهونة بمستوى الثبات في الإجراءات والتناغم في المكونات، وعدالة الكفة التعليمية في احتواء هاتين المعادلتين، فمثلا توجيه الطالب لأن يكون مبتكرا مخترعا، مجتهدا في عمله، منضبطا في وظيفته، يمتلك القدرات العليا في البحث والتصحيح والتقييم، بحاجة إلى أن يعزز فيه نموذج الاستفادة من هذه المهارات وصبغها بصبغة القيم وتغليفها بطابع الخلق، وعندها سيكون راقيا في تصرفاته، مبدعا في طرح أفكاره، في تعاطيه مع القضايا المجتمعية والمواقف اليومية فيتجاوز الإشكاليات الصعبة بثقافة واسعة وحكمة بالغة ومنهج ساطع، وروح وقادة، مبدع في أسلوبه، حكيم في معاملاته، قوي في تواصله، وعندما يتجه به محتوى التعليم إلى امتلاك مهارات الثورة الصناعية الرابعة ومهارات المستقبل، واستخدام المنصات التواصلية الاجتماعية والشبكات، فإن نجاحه في استثمار هذه المهارات لا يكتمل إلا عبر ما تؤصله فيه هذه المهارات من حس الشعور بإنسانيته، فيؤسس فيه مفهوم التواصل الأسري والعلاقات الاجتماعية وصلة الأرحام وبر الوالدين ورعاية الأخوة وغيرهم، والأمر كذلك يقال عندما يتجه التعليم إلى صناعة مواطن بعقلية تجارية مجردة من غير أبعاد إنسانية واجتماعية وأخلاقيات فإنه لا يحسن التصرف مع موارده وإدارة مشروعه ليترك من غوغائيته مجالا للإفلاس وتراكم الديون أو البخل أحيانا، وكلما استطاع أن ينقل تلك المهارات ذات البعد الاجتماعي إلى واقع عمله ومسؤولياته وشبكه العلاقات لتقوي من إيمان بالثوابت والتزامه بإقامة صلاته وحماية هويته واحتوائه لأخلاقه، عندها تبرز معالم القوة في الشخصية الناتجة، التي تتحقق في وجود مواطن عامل منتج معتمد على نفسه يمتلك مشروعا اقتصاديا له، لا ينتظر المعونة من أحد، أو أن تقضى له حوائجه الاقتصادية على طبق من ذهب، ومع بناء مهارات رجل الاقتصاد والمهندس، تأتي قيمة صقل هذه المهارات بالقيم والمبادئ والأخلاقيات لينشأ جيل يحترم علاقاته الوظيفية والاقتصادية والاتفاقيات والعقود الموقعة والالتزامات والشروط والمواصفات كما يحترم أسرته ويحافظ عليه ويرعى أبنائه ويقوم بمصالحهم ويؤدي مهامه الوظيفية كما يؤدي أمانته في رعيته بكل مسؤولية واحترام وضمير.
من هنا باتت أهمية استيعاب المحتوى التعليمي ومواءمته مع المستجدات الدولية والإقليمية والخيارات الوطنية المطروحة لتعزيز اقتصاد الرؤية وبناء الشخصية العمانية المتوازنة ضرورة حتمية، تؤسس إلى مراجعة مقننة للمحتوى التعليمي وإعادة إنتاجه بطريقة تتناسب مع معطيات المجتمع والحالة الاجتماعية بما يلبي احتياجات المستقبل، ويتعاطى بمهنية لبناء الإنسان في مواجه حالة التيه والكبت النفسي والانسحاب من المواجهة، وعدم تقبل التغيير، يغضب لأتفه الأسباب، ويزعل على والديه لمجرد نصحهم له، أو منعهم شيئا أراده، سيارة أو غيرها، لا يتعلم من المواقف، أو يستعيد شريط الذكريات ليقف منها موقف المتأمل والممارس الحذق، والتي في تقديرنا الشخص بحاجة لأن يمنحها التعليم فرصًا أكبر للحضور في أجندته ويترك لها مساحات في أروقته، فيتعامل معها بمهنية، يؤكدها في برامجه وخططه ومناهجه، فمع الحاجة في التعليم إلى منتديات وبرامج ومهرجانات في العلوم والرياضيات، فإننا بحاجة أيضا إلى منتديات وبرامج في إدارة العلاقات الأسرية والاجتماعية والمحافظة على جملة المكاسب الاجتماعية وتعليم الأبناء كيف يقدرون والديهم، ويحافظون على أرصدة نجاح اقتصادية تحققت لهم لم تنسيهم مسؤولياتهم الاجتماعية وإنسانيتهم الواعية، وروحهم التي تجود بخير الفعال وسمو الفضائل، والتي جاءت نتيجة جهد جهيد وعمل دؤوب وإخلاص، وسهر وعمل وإخلاص، فمع حاجتنا اليوم إلى تقوية منصات الابتكار وحاضناته فإننا بحاجه اليوم أيضا إلى تقوية عرى الترابط الاجتماعي وتأصيل فقه العمل الاجتماعي والتطوعي وصناعة القدوة وبناء النماذج في سلوك الأبناء وتعرض الأبناء لمواقف محاكاة عملية في أخلاق الأزمات.
أخيرا، كيف يستطيع التعليم بما يمتلكه من أدوات وآليات وأنماط تعليم وإستراتيجيات احتواء تلك الصورة السلبية التي ارتبطت بوقتية المصالح وبراجماتية التصرف التي باتت تنشأ مع الأبناء منذ صغر مبكرة، وتتعايش معهم لسنوات قادمة، تكبر معهم وتنمو بنمو عمرهم الزمني، فتتأصل فيهم مسألة العقوق الخفي للوالدين، وتتربي فيهم غربة الوالدية، فإن هذه المعطيات التي باتت اليوم تسقط على واقع الأسر وعلاقات المصلحة التي باتت تنشا مع الأبناء نحو الآباء، بحاجة إلى مسار تعليمي منتج، وتوجيه تربوي سليم، ومحتوى تعليمي مبتكر، ومناهج دراسية مرتبطة بالواقع، ونشاط تعليمي محفز، وتدريس يعتمد على المواقف ومحاكاة الواقع، ومراجعات جادة لتجسيد ما تعلمه الطالب في بيئة المدرسة، وحضور الوعي لديه، إنها بحاجة إلى قيم وأخلاق وبناء ضمير، وتأسيس فقه السلوك، وهي موجهات ينبغي على التعليم الوطني أن يطرحها اليوم في واقع تعلم الطلبة.