أثير- زاهر بن حارث المحروقي
يعود أول تعرّفي بالسيد حمود بن أحمد البوسعيدي إلى الأول من مايو 1988م، عندما قرأتُ كتاب “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار” للشيخ سعيد بن علي المغيري، الصادر عن وزارة التراث القومي والثقافة قبل ذلك بسنتين تقريبًا.
وما لفت انتباهي وشدّني لشخصية السيد حمود هو ما كتبه المغيري: “إنّ أحسن ما ينبغي لنا أن نزيِّن به صفحات هذا التاريخ هو ذكر السيد المحسن الجليل حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي، ويناسب أن نخلد ذكره بجوار ذكرى مآثر هذا السلطان العظيم، رب المحامد والمكارم، السيد برغش بن سعيد. وحيث إنّ السيد برغش هو نادرة سلاطين زنجبار فكذلك السيد حمود بن أحمد نادرة رعاياه من عرب زنجبار. فكان - رحمه الله - أفضل المتقدمين والمتأخرين من العرب”.
ظللتُ فترةً من الوقت أخلط بين السيد حمود بن أحمد هذا، والسيد حمود بن محمد البوسعيدي الذي نصبه الإنجليز سلطانًا على زنجبار أواخر القرن التاسع عشر، بعد حادثة السيد خالد بن برغش والتي وقعت في 25 أغسطس 1896م.
قرأتُ دراسةً أعدّها الباحثُ سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني تحت عنوان: “حَتَّى لا نَنْسَى.. وَقْفِيَّة بَيْتِ الرِّباط العُمَانِيّ”، نشرها يوم الثلاثاء 10 فبراير 2009م؛ مّا زاد الاهتمام عندي لمتابعة تاريخ وقصة السيد حمود؛ لذا كنتُ حريصًا على أداء الصلاة في مسجده في ماليندي بزنجبار، وهو واحدٌ من ثلاثة مساجد تركها في الجزيرة.
أوقف السيد حمود أوقافًا طائلة من أمواله في سبيل البر والرحمة؛ منها بيت الرباط الذي في مكة المشرّفة، وهو بيتٌ سكنيّ اشتراه من حُر ماله، وأوقفه لإيواء الحُجّاج والمعتمرين الفقراء القادمين من عُمَان وزنجبار وغيرها، وأصله دارٌ تمَلَّكها بالشراء الشرعيّ، ثم حوّلها إلى وقفيّة موثقة بالمحكمة الشرعية في مكة المكرمة، وضمّ إليها دارًا أخرى في السَّنة نفسها عُرفت ببيت الرباط الثاني، تمييزًا لها عن بيت الرباط الأول، وعَيَّن لهما أوقافًا معلومة لصيانتهما وعمارتهما وخدمة نُزلائهما على مدار السَّنة.
وقصة وقف بيت الرباط تعود إلى خروج السيد حمود بن أحمد من زنجبار يوم 8 يناير 1872م لأداء مناسك الحج برفقة السلطان برغش بن سعيد بن سلطان سلطان زنجبار، وبعد عودة السلطان من مكة تخلَّف عنه السيد حمود فأقام بها مجاورًا للبيت الحرام مدة تزيد على ثلاثة أشهر، اشترى أثناءها دار بيت الرباط الأول في أبريل 1872م، ثم بدأ رحلته التي دوّنها في كتابه “الدرّ المنظوم في ذكر مَحَاسن الأمصار والرُّسُوم”، في أقطار مصر والشام حتى عاد إلى مكة المكرمة بتاريخ 4 أكتوبر 1872م، ومكث فيها إلى موسم الحج، وفي هذه الفترة اشترى دار بيت الرباط الثاني.
بيت الرباط الأول (هو المعروف سابقًا ببيت الرباط الكبير) يقع قريبًا من الحرم المكي الشريف، حيث لا تبعد المسافة بينهما أكثر من 300 متر. أما بيت الرباط الثاني (وهو المعروف سابقًا ببيت الرباط الصغير) يقع أبعد عن الحرم المكي الشريف، وبينه وبيت الرباط الأول مسافة تقدر بـ 250 مترًا، ثم أضاف السيّد حمود بتاريخ 16 فبراير 1873م بعضَ الموارد لهذا الوقف، وجعل غلتها لعمارته وعمارة بيت الرباط الأول، ولتوفير مياهٍ في صهاريج تكفي أهل الرباط من الحجّاج لشربهم وطبيخهم وغسيلهم، وأوقف كِتابًا في الحجّ لأهل بيت الرباط يُطالعون فيه.
يقول الشيخ سلطان الشيباني إنّ وصية السيد حمود بن أحمد - الذي رحل عن الدنيا بعد 9 سنوات من وقفيته - نصّت على تخصيص بعض عوائد ممتلكاته في زنجبار لصالح نزلاء بيت الرباط وسائر فقراء المسلمين بمكة المكرمة. كما تعدّدت وصايا كثير من العُمانيين من بعده للإسهام في خدمة بيت الرباط، وأنا أكتب هذه السطور فإنّه قد مرّ على وقف بيتَيْ الرباط في مكة المكرمة 153 عامًا.
وإذا كان السيد حمود اشتهر ببنائه بيتَيْ الرباط، فإنّ له - علاوة على ذلك - أوقافًا كثيرة أوقفها في زنجبار، لكن بعضها ضاع بعد الانقلاب على حُكم العُمانيين.
وقد أخبرني الشيخ عبد الله بن حميد البحري إمام مسجد السيد حمود في ماليندي بزنجبار أنّ الوثائق المتعلقة ببعض هذه الأوقاف أتلفت من قبل الانقلابيين، وأنه علم مؤخرًا أنّ السيد حمود أوقف ثلاثة عشر بيتًا في المدينة الحجرية لصالح مسجده لتعليم الناس العلوم الإسلامية والعربية، وتذكر بعض الوثائق أنّ السيد حمود ترك أيضًا بيتًا للرباط في زنجبار، ذلك لم يثبت حتى الآن إلا إذا كانت الوثائق قد أتلفت أيضًا.
شجّع السيد حمود حركة التعليم في زنجبار، وأوقف لها بعض الأموال، وعندما بنى مسجده جعل له وقفًا يُنفق منه لطلبة العلم والمعلمين والقائمين فيه، وأوقف كتبًا يستفيد منها طلبة العلم، منها مؤلفات الشيخ ناصر أبي نبهان الخروصي، ومن هنا أذكر أننا كنا - أنا وسيف بن سعود المحروقي وسليمان بن سالم المحروقي - خارج مسجد السيد حمود فإذا بفلسطيني يقيم في جدة يسألنا عن تاريخ المسجد، لأنه حسب قوله: “أحسستُ بروحانيات عجيبة وأنا أصلي فيه الفجر”. قلتُ في نفسي إنه الإخلاص في العمل عندما نتوجّه به خالصًا لله عزّ وجل.
من الأوقاف التي تركها السيد حمود في زنجبار “مبنى بيت القطار” وهو مبنى تاريخي حضاري، يقع على واجهة “سوق درجاني”، وكان وما يزال من أكبر المباني في السوق، وهو على شكل مستطيل وطويل على هيئة قطار، لذا سمي بهذه التسمية.
شُيّد المبنى في عهد السلطان برغش بن سعيد على نفقة السيد حمود، وصمّمه العُماني محمد بن سليمان الخروصي، وجعله السيد حمود وقفًا لخدمة أعمال مشروع تزويد المياه من منطقة مرتفعة تسمى “موانيانيا” الكائنة في “بوبوبو” إلى المدينة الحجرية في “أنغوجا”.
حقيقةً، إنّ شخصية السيد المحسن حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي شخصية نادرة، فهو حفيد الإمام أحمد بن سعيد، وعمته تكون والدة السيد سعيد بن سلطان، وتزوج السيدة زمزم شقيقة السلطان برغش، وممّا يُذكر أنه أعتق في حياته ألفًا ومائتي مملوكًا، في زمن لم يكن فيه امتلاك الأرقاء أمرًا منبوذًا، وهؤلاء الأرقاء الذين أعتقهم لم يكونوا من أرقائه، وإنما كان يشتريهم من حُرّ ماله ليعتقهم في سبيل الله.
لقد زهد السيد حمود في الدنيا آخر أيامه، ولازم سكنى “بوبوبو”، وبالأخص البيت الذي كان بالقرب من مسجده، ولزم المحراب إلى أن توفاه الله تعالى في اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 1298هـ، 1880 ميلادي، ودُفن بجوار مسجده.
وقد زرنا - أنا وسيف - المسجد وقرأنا الفاتحة على قبره، وكان برفقتنا مرافقنا محمد بن أحمد الفلاحي، وحكى لنا جماعةُ المسجد أنّ المسجد يفتقر إلى الماء، ويرجون المساعدة في ذلك، لأنّ الناس ابتعدوا عنه.
الأخبار عن السيد حمود في كتب التاريخ العُماني قليلة، لكن يكفي أنّ أعماله تشهد له، وأراني أعود إلى كلام الشيخ سعيد بن علي المغيري في كتابه “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار” إذ يقول: “يحق لعرب زنجبار أن يحتفلوا بذكرى هذا السيد المحسن الجليل في دار جمعيتهم في كلِّ عام، ويذكروا أعماله الجليلة ومآثره الحسنة ومناقبه الجميلة؛ وإذا قَدّرَت الأمةُ أعمال رجالها تقدّمت إلى الأمام، فعسى ولعل قلوب البقية الباقية تنتعش إلى الاقتداء الحسن بأولئك السادة الكرام في الأعمال الجليلة، حتى يبلغوا درجة مَن تقدمهم مِن رجال الفضل والسؤدد والمكارم، وينالوا شكر الأمة لهم، وهكذا تفعل الأمم الراقية”. نعم إنها لحقيقة، فهكذا تفعل الأمم الراقية