الأولى

قبل 44 عامًا: الرحلة العُمانية التاريخية إلى ميناء كانتون وهدية السلطان قابوس لمسلمي الصين

السفينة العمانية (صحار)

أثير- تاريخ عمان

إعداد: د. محمد بن حمد العريمي

في الحادي عشر من يوليو عام 1981م أي قبل (44) عامًا من الآن، وصلت السفينة العمانية (صحار) إلى ميناء كانتون بالصين منهيةً رحلةً طويلة كانت قد بدأتها في الثالث والعشرين من نوفمبر 1980م قطعت خلالها حوالي (6000) آلاف ميلٍ بحري، وخاضت خلالها تحديات ملاحيّة عديدة قبل أن تصل إلى وجهتها الأخيرة.

السفينة العمانية (صحار)

“أثير” تقترب في هذا التقرير من تفاصيل رحلة تلك السفينة وأهدافها، وطاقمها البحري، والموانئ التي مرّت بها، وأبرز التحديات التي واجهتها.

البداية

في الثالث والعشرين من نوفمبر عام 1980م ومع احتفالات البلاد بالعيد الوطني الثالث عشر، كان هناك احتفالٌ من نوعٍ آخر في قاعدة سلطان بن أحمد البحرية حيث انطلقت السفينة (صحار) وعليها طاقم من البحّارة يضم عشرين بحّارًا يقودهم البحار الإيرلندي توم سيفرن، من بينهم ثمانية من البحّارة العمانيين الذين تركوا ديارهم وأهلهم ليقوموا بتلك الرحلة التاريخية، وليؤكدوا للعالم أجمع أن أجدادهم قاموا بمثل هذه الرحلات منذ قرونٍ طويلة متحملين المصاعب والأهوال العديدة.

ما قبل البداية

عندما تم الاتفاق بين الملاح الإيرلندي توم سيفرن والحكومة العمانية على فكرة المشروع وأهدافه، ومع اقتراب تنفيذ المشروع، تم اختيار مدينة صور كي تكون المكان الذي يتم فيه صناعة تلك السفينة التاريخية، وذلك لأسباب عدّة من بينها شهرة ميناء صور في مجال الملاحة وصناعة السفن، ووجود عدد من النواخذة والوساتيد الذي ارتبطوا طوال حياتهم بمجال الملاحة البحرية وصناعة السفن، وما يزالون يمتلكون خبرات كافية في هذا المجال.

وعند البحث عن مكانٍ يكون مأوى للعمال الذين سيتم جلبهم من ساحل المليبار بالهند للعمل في بناء تلك السفينة، وقع الاختيار على بيتٍ تقليدي يمثّل نموذجًا للعمارة الصورية التقليدية، ويقع في حيّ (الرشّة) أحد أحياء مدينة صور العتيقة، وفي مقابل خور صور الرئيسي، تعود ملكيته إلى ورثة النوخذا المعروف راشد بن سليم بن ثابت المخيني الذي كان يمتلك العديد من السفن الخشبية العابرة للمحيطات، وتم استئجار البيت في عام ١٩٧٩م من قبل وزارة التراث القومي والثقافة آنذاك لصالح فريق بناء السفينة صحار لمدة عام كامل.

ولنترك تيم سيفرن قبطان رحلة (السندباد) والمشرف على بناء السفينة صحار يصف لنا البيت كما جاء في كتابه (رحلة السندباد): " كان منزلًا كبيرًا شيدته منذ مائتي سنة أسرة أحد تجار صور حول دهليزٍ على النمط العماني التقليدي، وكان هذا الدهليز مفروشًا بالمرجان المجروش ينسحق بصوتٍ مفرح عندما تطأه أقدام أي شخص، وعلى امتداد الدهليز عدد من الأبواب تقود إلى العديد من الحجرات تقع في حماية سورٍ داخلي. وهنا كانت توجد أنواع عديدة من الحجرات ذات أشكالٍ وأحجامٍ مختلفة، بعضها متسعٌ يصلح للنوم وأخرى صغيرة تصلح لأن تكون مطبخًا أو مخنًا لحفظ الأطعمة، وكانت هناك حجرةٌ تصلح لأن تكون حمّامًا، كذلك كانت بعض الحجرات صالحة لاستخدامها كمخزن“.

أما عن سبب اختيار هذا البيت بالذات ليكون مقرًا لسكن طاقم فريق صناعة السفينة (صحار) فهو كما يرى “على أية حال؛ فكلما كنت في حاجةٍ إلى حجرةٍ لغرضٍ خاص كان الطلب جاهزًا، فكان بيتًا نموذجيًا وكأنه كان معدًا للغرض الذي كنا نسعى إلى تحقيقه؛ أي منزلٌ يصلح لإقامة فريق يستعد لصناعة سفينة”.

أما عن موقع البيت وإطلالته فيصفه هكذا: " وكانت النوافذ تطل على بحيرةٍ تظهر على سطحها رؤوس السلاحف تستدفئ في المياه الدافئة، وكانت الرمال الناعمة تنحدر تدريجيًا نحو هضبةٍ صغيرة لا تزال تحتفظ ببقايا قلعةٍ حربيةٍ قديمة متهدمة، كنت أشاهد خلفها سلسلة من الجبال التي تفصل صور عن المناطق الصحراوية“.

ما تبقى من البيت الذي كان مقرًا لطاقم بناء السفينة صحار
صورة التقطت سنة ١٩٨٠ لفناء بيت النوخذا راشد بن سليم بن ثابت المخيني. أرشيف بيتر مارلو.

وقد استُلهم بناء السفينة (صحار) من مغامرات السندباد وسفن العصور الوسطى، وبلغ طولها 87 قدما أي ما يقارب (26.5 متر) وذلك خلال سبعة أشهر من ألواح خشبية ضمت مع بعضها البعض بواسطة حبال ملفوفة تتكون من قشر جوز الهند التي بلغ طولها حوالي 400 ميل أي ما يقارب (640 كم). كما استفاد توم سيفرن أثناء وجوده في مدينة صور خلال عملية بناء السفينة من خبرات عدد من النواخذة والربابنة المعروفين الذين أطلعوه على بعض الخرائط والوثائق الملاحية التي يمتلكونها، وأمدوه بالمعلومات المتعلقة بنشاط الملاحة في منطقة المحيط الهندي.

توم سيفرن في نقاش ملاحي مع النوخذا صالح بن خميس الغيلاني

بعد انتهاء العمل في بناء السفينة كان لزامًا أن يتم تدشينها وفق التقاليد والطقوس القديمة التي اعتاد أبناء صور تدشين سفنهم بها، أو ما يعرف بعملية (التكوير)، وذلك من خلال مشاركة العديد من أبناء المدينة في عملية سحب السفينة وإنزالها إلى الخور القريب، وكانت احتفالية كبيرة حضرها عدد من المسؤولين وأبناء المدينة والضيوف القادمين إليها، وطاقم السفينة، ثم انتقلت السفينة إلى قاعدة سلطان بن أحمد البحرية في مسقط استعدادًا لانطلاقها في رحلتها الطويلة.

السفينة (صحار) وهي راسية في ميناء صور استعدادًا لانطلاقها إلى مسقط
صورة التقطت من حفل تدشين السفينة صحار. أرشيف عبدالله المديلوي

هدف الرحلة

كان الهدف الرئيس من تلك الرحلة هو إثبات دور الريادة العمانية في الملاحة البحرية والتجارية عبر طرق بحرية اكتشفوها واتخذوها كمساراتٍ لهم يتنقلون خلالها من ميناءٍ لآخر بسفنهم الشراعية التقليدية، ولتعيد ذكرى تاريخية خالدة كان للإنسان العُماني الدور الفاعل في صناعة أحداثها، من خلال الرحلات البحرية التجارية التي قام بها العُمانيون في العصور الإسلامية إلى الصين، عبر الطرق البحرية المعروفة بواسطة سفن شراعية مصنوعة من الخشب والحبال واستخدموا فيها النجوم وعلوم الفلك والأدوات الملاحية التي اخترعوها، واستحقوا بها لقب رواد البحار في المحيط الهندي.

انطلاق الرحلة

بدأت الرحلة في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر 1980م وانتهت في الحادي عشر من يوليو 1981م، أي حوالي ثمانية أشهر، قطعت خلالها حوالي ستة آلاف ميلٍ بحري عبر الطرق الملاحية القديمة مستخدمةً الشراع التقليدي، ومعتمدةً على قوة دفع الرياح، ولم تزوّد بأجهزة الملاحة الحديثة، أو أجهزة الاتصال، أو الرؤية الليلية، أو غيرها من الأجهزة المتقدمة.

جدول
خط سير السفينة صحار من مسقط إلى كانتون
جريدة عمان، الأحد 23 نوفمبر 1980

وقد أقيم احتفال كبير لتوديع السفينة في رحلة سفرها، أقيم صباح يوم الأحد 23 نوفمبر 1980م بقاعدة سلطان بن أحمد البحرية بمسقط تحت رعاية سمو السيد فيصل بن علي وزير التراث القومي والثقافة وقتها، وبحضور عدد من أفراد الأسرة الحاكمة، والمسؤولين، وجموع عديدة من المواطنين.

جريدة عمان، الاثنين 24 نوفمبر 1980
جريدة عمان، الاثنين 24 نوفمبر 1980

وصول السفينة

بعد رحلةٍ شاقة وطويلة تخللتها العديد من المصاعب والأهوال، والمواقف الطريفة كذلك، وصلت السفينة (صحار) إلى ميناء كانتون بالصن يوم السبت الحادي عشر من يوليو سنة 1981م.

وقد أقيم احتفال كبير للسفينة لدى وصولها إلى ميناء كانتون بالصين وذلك في يوم السبت 11 يوليو 1981م تحت رعاية سمو السيد فيصل بن علي وزير التراث القومي والثقافة وقتها، وذلك في ميدان لؤلؤة كانتون، حيث بدأت مراسم الاحتفال لدى وصول سموه إلى الميناء مع رئيس مقاطعة كانتون، ورئيس لجنة العلاقات الثقافية مع البلدان الأجنبية بجمهورية الصين، وعدد من كبار المسؤولين.

جريدة عمان. الأحد 12 يوليو 1981م

وعند وصول سموه تعالت عبارات الترحيب وعلت أصوات الطبول والموسيقى بينما كانت السفينة تشق طريقها إلى الميناء تتقدمها قطع من السفن الصينية.

وعند رسو السفينة في الميناء تقدم راعي الحفل وكبار مرافقيه إليها يلوّحون بأيديهم لبحارتها، وأطلقت الألعاب النارية وعزفت الموسيقى، ثم نزل طاقم السفينة لمصافحة كبار المستقبلين، ألقيت بعدها الكلمات الترحيبية من الطرفين العماني والصيني.

السفينة صحار أثناء دخولها ميناء كانتون
السفينة صحار أثناء دخولها ميناء كانتون
طاقم السفينة في حديث مع بعض الزوار الصينيين
جريدة عمان. الاثنين 13 يوليو 1981

عودة طاقم السفينة العماني

عاد طاقم السفينة (صحار) إلى أرض الوطن صباح يوم الأحد 19 يوليو 1981 بعد أن أتموا بنجاح رحلتهم التاريخية من مسقط إلى كانتون بالصين، وأثبتوا أن العمانيين الأوائل قد قاموا بمثل هذه الرحلات التجارية البحرية الطويلة ووصلوا الشرق بالغرب منذ القدم.

وتكون طاقم السفينة العماني من كلٍ من: الملازم خميس بن حميد بن علي العريمي من قوات السلطان البحرية، والعريف مسلم بن أحمد الشيادي من قوات السلطان البحرية، وعيد بن عبدالله بن صالح العلوي من شرطة عمان السلطانية، وخميس بن سعيد المخيني من خفر السواحل، والبحّار المدني جمعة بن مطر بن مبارك ، والبحّار المدني عبدالله بن مبارك بن سالم، والبحّار المدني جميل بن مرهون بن غابش، والبحّار المدني صالح بن يوسف بن صالح.

بحارة سفينة (صحار) لدى وصولهم إلى مطار السيب. جريدة عمان، 20 يوليو 1981

وقد وصف توم سيفرن لحظة توديعه لأفراد طاقمه من العمانيين بقوله: “كان بحّارة صحار يقفون أمامي، وشعرت بالأسى والأسف عندما تبيّن لي أن هذه قد تكون آخر فرصة نتجمّع فيها سويًا كفريق عمل. لقد قمنا بالأعمال التي كان علينا القيام بها، وقد تتبّعنا الأصول التي أخذت عنها قصة السندباد في منطقة يبلغ طولها ربع الطريق حول العالم في الهند وسريلانكا وسومطره وأخيرًا الصين. إن مغامرتنا الكبرى قد انتهت، وعما قريب سوف ينصرف كلٌ إلى بيته.

تحديات

واجهت السفينة (صحار) عددًا من التحديات العديدة خلال رحلتها الطويلة التي اعتمدت فيها على وسائل الملاحة البدائية، ومن بين تلك التحديات: تحطم الفرمال الذي يحمل الشراع المرتفع على الصاري واستطاع طاقم السفينة إصلاحه ثم استعاضوا بقطعة خشب كبيرة أثناء وصولهم إلى جزيرة سومطره حيث قاموا بتقطيع إحدى الأشجار وصناعة (فرمال) جديد منها.

كما تعرضت السفينة لنقص الماء والزاد مرارًا، وكان طاقم السفينة يجمع مياه المطر ويقوم بحفظه ثم توزيعه عبر كميات محدّدة. كما تأخرت السفينة لمدة شهرٍ كامل عن وصولها إلى المحيط الهندي وذلك بسبب التيارات البحرية وقلة الرياح المناسبة.

وتعرضت السفينة لتيارات عنيفة وعواصف شديدة ورياح وأمطار عند وصولهم إلى بحر الصين، وفقدوا أربعة أشرعة نتيجة الرياح العاتية التي كانت تحطّم الأشرعة، وأخذت السفينة تبحر وسط تلك الظروف بغير هدى، واستمرت تلك الحالة لمدة أربعة أيام حتى هدأ الجو أخيرًا.

ومن بين المواقف التي صادفها طاقم السفينة (صحار)، أنهم وبعد أن خرجت السفينة من جزيرة سيلان (سريلانكا) ونظرًا للظروف الصعبة التي واجهوها في المحيط الهندي لمدة شهرين وأدّت إلى تناقص المواد الغذائية، حيث كانت السفينة تحمل حوالي (1000) كيلو من التمر العماني كوجبة رئيسة، إذ بهم يتفاجؤون في أحد الأيام باقتراب أسراب كثيرة من سمك القرش التي أحاطت بالسفينة، فبدأوا في اصطياد ما أمكن من هذه الأسماك، واستطاعوا في يومٍ واحد اصطياد (16) سمكة يتراوح حجم الواحدة منها ما بين 3-4 أقدام، وكانوا يجففونها ثم يقومون بتقطيعها، وقد أسهمت في حل مشكلة الغذاء بشكلٍ مؤقت.

البحار عيد بن عبدالله العلوي وهو يقوم بتقطيع بعض أسماك القرش
جريدة عمان. الثلاثاء 21 يوليو 1981
معدّ التقرير مع البحّار عيد بن عبدالله بعد مرور أكثر من 40 عامًا على الرحلة

المراجع

  • سيفرن، توم. رحلة السندباد، ط3، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، 2017.
  • العريمي، محمد بن حمد. بالصور: البيت العُماني الذي كان شاهدًا على رحلة (السندباد)، موقع أثير ، 15 ديسمبر 2018.
  • عدة أعداد من جريدة عمان خلال شهري نوفمبر 1980، يوليو 1981.
Your Page Title