أخبار

فلسطين أمام القضاء الدولي: نصوص قوية، وتنفيذ غائب

فلسطين

مسقط-أثير

إعداد: أمنية بنت خليفة الناصرية، محامية

تُشكّل العدالة الجنائية الدولية حجر الزاوية في جهود المجتمع الدولي لترسيخ سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان، إذ تقوم على مبدأ عدم إفلات مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة من العقاب، وفي هذا السياق برزت المحكمة الجنائية الدولية كإحدى أبرز آليات العدالة الجنائية الدولية المعاصرة، المنشأة بموجب نظام روما الأساسي لعام ١٩٩٨م، والتي تهدف إلى محاسبة الأفراد المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلا أن التطبيق العملي لأحكام هذا النظام يواجه إشكاليات واقعية، على رأسها ما وصفته القاضية نافي بيلاي التي ترأست سابقًا المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، ورئيسة لجنة التحقيق الأممية المعنية بفلسطين حاليًا، حين أكدت أن مسار العدالة الدولية يظل مسارًا بطيئًا ومعقدًا، وتستند في ذلك على الثغرات القانونية لدى الهيئات القضائية الدولية المكلفة بمتابعة هذا النوع بالذات من الجرائم. وتؤكد بيلاي أن المحكمة تفتقر إلى أداة تنفيذية خاصة بها، فهي لا تمتلك ضابطها الخاص أو قوة عسكرية لتنفيذ أوامر التوقيف، وإنما تعتمد على تعاون الدول الأعضاء في القبض على المتهمين وتسليمهم.

وهذا القصور يُعَدُّ من أبرز التحديات التي تواجهها العدالة الدولية، حيث تبقى العديد من القرارات القضائية معطلة لسنوات طويلة بسبب غياب آليات إلزامية للتنفيذ وحبيسة الإرادة، ويُعكس هذا البطء بصورة جلية في القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، إذ تواترت تقارير لجان التحقيق الدولية والمنظمات الحقوقية التي توثق استهداف المدنيين في غزة، وتدمير البنية التحتية، وحرمان السكان من الغذاء والدواء، واستمرار سياسات التهجير والحصار وغيرها من الانتهاكات الصارخة في حقوق الإنسان والتي تعد جميعها تجاوزات لا تغتفر في قواعد القانون الدولي الإنساني وتمثل انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام ١٩٤٩ م وبروتوكولاتها الإضافية. وإلى جانب الجهود القضائية، تلعب المنظمات الدولية غير الحكومية دورًا محوريًا في توثيق الانتهاكات وممارسة الضغوط المعيارية والقانونية على الحكومات والهيئات الدولية، فقد أصدرت منظمة العفو الدولية في تقاريرها الأخيرة توثيقًا لتورط خمس عشرة شركة ومؤسسة في أنشطة تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الانتهاكات الواقعة في الأراضي الفلسطينية، كما ذكرت الباحثة في منظمة العفو الدولية بدور حسن، منها شركات أسلحة، شركات ذكاء اصطناعي، شركات توفر المواد والمعلومات السحابية للسلطات الإسرائيلية، وشركات سياحية تتعاقد وتشارك في المستوطنات، وقد دعت المنظمة الحكومات والمؤسسات إلى تبني تشريعات داخلية متوافقة مع التزاماتها الدولية، تمنع وتحظر التعامل مع هذه الكيانات من سحب الاستثمارات ووقف المشتريات أو فسخ العقود بما ينسجم مع قواعد القانون الدولي الإنساني.

‎وفي السياق ذاته، أوضح الخبير القانوني ومقرر الأمم المتحدة الخاصة المعني بحقوق الإنسان في فلسطين سابقًا مايكل لينك إلى أن بطء العدالة الدولية لا ينفي قيمتها، إذ يشير إلى أن تراكم الجهود الحقوقية والضغوط المدنية يمكن أن يفضي إلى تحولات ملموسة وتغيرات حقيقية في الالتزام بالقانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، مؤكدًا أن العدالة لا تتحقق فقط في قاعات المحاكم، وإنما أيضًا من خلال المجتمع المدني والوعي الحقوقي العالمي، على غرار ما حصل في جنوب إفريقيا في مواجهة نظام الفصل العنصري، ورغم أن هذه المبادرات والتقارير لا تتمتع بقوة الإلزام القضائي، وتبدو العدالة الدولية بطيئة وعاجزة أحيانًا عن فرض قراراتها، إلا أن شهادات القضاة والخبراء، مثل نافي بيلاي ومايكل لينك، تُعدّ سندًا توثيقيًا ذا قيمة قانونية يمكن الاستناد إليه أمام الهيئات القضائية الدولية، وتكشف أن تراكم الضغوط القانونية والحقوقية والشعبية معًا يمكن أن يشكل قوة لا يُستهان بها لدفع مسار العدالة إلى الأمام.

‎وفي ظل استمرار التحديات السياسية، تبقى المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني بمثابة الذراع المساند للمحاكم الدولية من أجل ترسيخ مبادئ القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان أمام هذا الواقع، وتتجه الأنظار إلى أدوات أخرى للضغط، مثل المقاطعة الاقتصادية أو فرض قيود على الشركات الداعمة للانتهاكات، بإعتبارها وسائل ضغط موازية لتعزيز فاعلية مسار العدالة القضائية وهنا يثور التساؤل: إلى أي مدى يمكن للمقاطعة إلى جانب المسار القضائي، أن تشكل أداة مؤثرة لدفع إسرائيل إلى الالتزام بالقانون الدولي ووقف انتهاكاتها في الأراضي الفلسطينية؟

Your Page Title