أثير- تاريخ عمان
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
حرص العُمانيون منذ القدم على اقتناء مصادر المعرفة بمختلف أشكالها من كتبٍ ومخطوطاتٍ وغيرها، فكانوا يبذلون في سبيل اقتنائها ونسخها مبالغ كبيرة، ثم يتبادلونها فيما بينهم لتوسيع آفاقهم الفكرية والمعرفية، سواء على المستوى الفردي أم المجتمعي، بل تجاوز حرصهم ذلك إلى وقف بعض تلك الكتب والمخطوطات، وتخصيص موارد مالية للعناية بها وصونها، على الرغم من التحديات الفكرية والاقتصادية التي واجهوها في تلك الحقبة.
يُظهر التتبع الدقيق لأوراق العديد من المخطوطات الفكرية التي احتوتها خزائن الشخصيات الفكرية والاجتماعية في سلطنة عُمان أن تلك المخطوطات لا تقتصر على نصوصها الأصلية فحسب، بل تمثل فضاءً معرفيًا زاخرًا بالتدوينات والتقييدات الجانبية التي دوّنها أصحابها أو من تداولها بعدهم.
وتكشف هذه الملاحظات الشخصية عن تنوعٍ في الاهتمامات، إذ تتضمن إشاراتٍ إلى أحداثٍ طارئة أو وقائع ذات أهمية زمنية، إلى جانب بياناتٍ توثّق كيفية الحصول على المخطوط وسعره ومكان شرائه. كما تعكس التقييدات العلمية المنتشرة في حواشي كثيرٍ من هذه المخطوطات مستوىً متقدمًا من التفاعل الفكري والنقدي مع النصوص؛ ما يجعلها مصدرًا مهمًا لدراسة الحركة العلمية والثقافية في المجتمع العُماني.
ومن الشواهد الدالة على اهتمام العُمانيين باقتناء مصادر المعرفة وتداولها، انتقال النسخة الواحدة من المصنفات العلمية بين عددٍ من الأشخاص، سواءً عن طريق الشراء أم الإهداء الشخصي، بما يعكس طبيعة الحركة العلمية والاجتماعية في البيئة العُمانية، ويتضح ذلك جليًا في مخطوط “المناهل الصافية شرح المقدمة الشافية”، الذي تحتفظ مكتبة الشيخ سالم بن حمد بن سليمان الحارثي بإحدى نسخه، إذ انتقلت هذه النسخة عبر سلسلةٍ من التملّكات المتعاقبة بين عددٍ من الأفراد، إلى أن استقرت في حوزة الشيخ المذكور عن طريق الإهداء.
مخطوط المناهل الصافية شرح المقدمة الشافية
يُعدُّ مخطوط «المناهل الصافية شرح المقدمة الشافية» من المؤلفات اللغوية المتميزة في علم الصرف، وهو شرح لمتن «الشافية في التصريف» للإمام جمال الدين عثمان بن عمر المصري الإسنوي المالكي المعروف بابن الحاجب (ت 646هـ)، وقد ألّفه العالم لطف الله بن محمد الغياث الظفيري، متناولًا فيه مباحث علم الصرف من زاوية تحليلية تربط هذا العلم بفروعٍ لغويةٍ أخرى كعلوم البلاغة والأدب. يتكوّن الكتاب من جزأين، ويُظهر مستوىً رفيعًا من العناية بالتحليل اللغوي والمنهجي.
وتوجد من هذا المخطوط نسخٌ عديدة في عددٍ من الخزائن العُمانية العامة والخاصة، من بينها نسخة محفوظة في دار المخطوطات العُمانية تحت الرقم (1430)، وقد نسخها علي بن محمد بن علي بن يحيى سنة 1106هـ؛ ما يعكس اهتمام العلماء والنُّسّاخ العُمانيين بالحفاظ على التراث اللغوي وتداوله عبر الأجيال.

وتوجد نسخةٌ أخرى من مخطوط «المناهل الصافية شرح المقدمة الشافية» في مكتبة الشيخ سالم بن حمد بن سليمان الحارثي ببلدة المضيرب، وهي النسخة التي يعتمد عليها هذا التقرير في بيان مظاهر اهتمام العُمانيين بالعلم واقتناء مصادره؛ إذ تكشف الصفحة الأولى من هذه النسخة عن عددٍ من التقييدات التي توضح مسار انتقال المخطوط بين أكثر من خزانة شخصية، ومن أبرزها ما يلي:
- “هذا الكتاب اشتريته من خالد بن سعيد بن سيف المعولي. الفقير لله سيف بن سالم بن حمد العدوي”.
- " اشتريت هذا الكتاب من تركة الوالد سيف بن سالم بن حمد العدوي وأنا الفقير لله حمد بن سيف بن حمد المعولي بيده الفانية سنة 1358هـ“.
- " أهداه لي الأخ حمد بن سيف المعولي. كتبه العبد حمد بن عبدالله السالمي. 30 محرم 1360″.
- " أهديته للشيخ سالم بن حمد بن سليمان الحارثي. كتبته بيدي وأنا أبو حميد السالمي“.
كما يظهر تقييدان آخران لم يتسنَّ قراءتهما بوضوح، يشيران إلى أن المخطوط كان في حيازة أشخاصٍ آخرين قبل أن يصل إلى خالد بن سعيد بن سيف المعولي.
ومن خلال هذه التقييدات يمكن تتبّع خطّ انتقال المخطوط، إذ يبدو أن خالد بن سعيد المعولي اقتناه أولًا عن طريق الشراء من أحد الأشخاص أو المكتبات، ثم باعه لسيف بن سالم بن حمد العدوي، وبعد وفاته انتقل إلى ابنه حمد بن سيف المعولي من خلال تركة والده سنة 1358هـ، ليقوم الأخير بإهدائه في 30 محرم 1360هـ الموافق 27 فبراير 1941م إلى الشيخ حمد بن عبدالله بن حميد السالمي، نجل العلّامة نور الدين السالمي.
وفي مرحلةٍ لاحقة، أهدى الشيخ حمد بن عبدالله السالمي هذا المخطوط إلى الشيخ سالم بن حمد الحارثي، الذي ربطته به علاقة فكرية واجتماعية وثيقة، حيث كانت لقاءاتهما العلمية تتجدد بين حينٍ وآخر بين بلدة الظاهر، مقر الشيخ السالمي، وبلدة المضيرب، مقر الشيخ الحارثي.
ويُبرز هذا التسلسل الزمني والإنساني في انتقال المخطوط عمقَ التفاعل الثقافي بين العلماء والمهتمين بالمعرفة في عُمان، ويعكس في الوقت ذاته ما اتسمت به العلاقات العلمية من روح التعاون وتبادل الإهداءات العلمية بوصفها إحدى صور التواصل الفكري والاجتماعي في البيئة العُمانية.

أهمية التقييدات:
تكشف التقييدات الواردة في هذا المخطوط عن قيمةٍ معرفيةٍ وتاريخيةٍ بالغة الأهمية، فهي لا تقتصر على توثيق مسار انتقال الكتاب بين مقتنيه فحسب، بل تمثل مصدرًا مكمِّلًا لدراسة أنماط اقتناء المعرفة وتداولها في المجتمع العُماني. إذ تعكس هذه التدوينات طبيعة العلاقات الفكرية والاجتماعية بين العلماء وطلبة العلم. كما تسلط الضوء على مفهوم الإسناد المادي للمعرفة، أي انتقالها عبر الأيدي والنسخ والهدايا، لا عبر النصوص فحسب.
وتُبرز هذه الظاهرة كذلك الدور المحوري الذي اضطلع به الأفراد في حفظ التراث الفكري خارج الإطار المؤسسي، من خلال مبادرات شخصية اتسمت بروح المسؤولية العلمية والاجتماعية. كما توضح كيف أسهمت شبكة العلاقات الممتدة بين العلماء في مختلف مناطق عُمان – مثل المضيرب والظاهر وغيرها – في إيجاد فضاءٍ معرفيٍّ متكاملٍ سمح بتداول المؤلفات وتناقلها جيلًا بعد جيل.
ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى هذه التقييدات باعتبارها وثائق مصاحبة للمخطوطات، تضيف إلى قيمتها العلمية بعدًا تاريخيًا وإنسانيًا، وتُعين الباحثين على فهم ديناميات انتقال المعرفة في عُمان، وأساليب تفاعل المجتمع مع الكتاب بوصفه وعاءً للعلم ورمزًا للتواصل الثقافي المستمر.



