أثير – د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يمثل التعليم منظومة اجتماعية إنسانية جاءت من رحم المجتمع وإليه وتتعامل مع تفاصيل دقيقة في حياة المواطن وفق آليات مبتكرة وبرامج هادفة وإستراتيجيات أداء واضحة المعالم، وهو بما يمثله من تجسيد عملي وتأطير فلسفي وفكري رصين لمفهوم المواطنة في ظل ما تحمله رسالة التعليم من مبادئ وقيم وأخلاقيات وموجهات، وما ترسمه من أطر المحبة والسلام والتنمية والتعايش والوئام، وما تستهدفه من بناء المواطن الواعي المنتج المسهم في خدمة وطنه، الحامل لرايته والمدافع عن مبادئه والساعي لنهضته والملتزم بقواعده، لذلك تأتي قيمة الممارسة التعليمية الموجهة عالية الجودة والمتناغمة مع أبجديات العمل الوطني، ترجمة فعلية للمواطنة المنتجة وقراءة عميقة لفلسفة عملها، وإطار عمل يحوي في تفاعلاته كل المنظومات الحياتية الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والتوعوية.
ولمّا كان مفهوم المواطنة يتسم بعمقه واتساعه وتفاعله مع معطيات الواقع الاجتماعي حاضره ومستقبله، ويتعايش مع مختلف الظروف والمتغيرات والمؤثرات، فإن التعليم في ظل الفرص المتاحة له والميزات التنافسية وقوة التأثير التي يمتلكها يمكن أن يصنع من هذه المعطيات منتج قوة ومحطة منافسة تبرز فيها قيمة التطبيق الميداني لقيم المواطنة ويظهر فيها مسار التكامل والاندماج بين مكونات المواطنة وعناصرها بما تمثله من منظومة مجتمعية قائمة على تعظيم أرصدة الأخلاق والقيم والمبادئ والعادات الأصيلة والتقاليد النافعة المميزة للشخصية العمانية في تسامحها وتوازنها الفكري، وبين الإستراتيجيات التنفيذية بما تمثله من جملة الممكنات والقدرات والاستعدادات والجاهزية والكفاءة العلمية والمهنية والعملية التي تتجه إلى تطوير الممارسة والتثمير في الفرص والتسويق للمهارة الشخصية، لتنسج جميعها خيوط التقاء ممتدة في بناء شخصية المواطن.
كما يأتي دور التعليم في ظل النموذج العملي المصغر الذي يعكسه في بيئة المدرسة والصف الدراسي وحرم الجامعة وقاعات التدريس والمختبرات ومراكز البحث و غيرها من المواقف اليومية التي يعيشها الطلبة داخل إحراماتها، ليكسب مفهوم المواطنة عمقا ينساب في جنبات النفس ويسطع في أشعة العمل وخصال التربية ونموذج القدوة والمثال الذي تصنعه مؤسسات التعليم في مخرجاتها لتصبح سواعد بناء ونهضة علم وعمل ومنصات للبناء ومسارات للتغيير وإنتاج المواقف، وتتجلى في مخرجاتها قيم الخيرية والإنسانية وبواعث الإرادة والإدارة والقيادة والإخلاص عندها تتحول المواطنة في ظل سلوك الوعي إلى صورة مصغرة من الوطن الكبير، يتجاوز بها الشعارات البراقة وعبارات الحب والولاء والانتماء السطحية، إلى المبادرة والحضور في المواقف، لتصبح المواطنة المنتجة موجهات حاكمة لقواعد السلوك، تضع المواطن أمام صورة مكبرة للواقع، تستدعي منه المزيد من العمل الجاد الذي لا ينتظر من يحدد له المسار، أو يمهد له الطريق، أو يسوّي له الأرض، بل عليه أن يقرأ الواقع بنفسه، ويشخصه في ظل استيعابه للأهداف العليا والسياسات العامة للدولة، ويؤسّس فيها منهجياته واتجاهاته، ويصنع من خلالها معايير أداء للسلوك القادم، بحيث يكون سندا لنفسه وأبناء مجتمعه، وإطار عمل يترجمه في مواقفه الحياتية كمسؤول وموظف وأب وأم وطالب ومربي وغيرهم، بالشكل الذي ينعكس إيجابا على مسارات الإنجاز المتحققة.
وتصبح نتائج تجسيد المواطنة مساحات التزام وعرصات اختبار عبر تأصيل العمل التطوعي، واختصار الإجراءات، واحتواء القدرات، وصناعة القدوات، بما يؤسس لمرحلة جديدة يتم فيها نقل المواطن من مرحلة الاستماع للتعليمات والتوجيهات، والإصغاء للنصائح أو الكلمات والعبارات والخطب الحماسية حول الوطن؛ إلى مرحلة الاستمتاع بها وإعادة إنتاج المواطنة في فكره وقناعاته وأساليب عمله وحواراته وأطروحاته وتوصياته ومقترحاته باعتبارها مشتركا جمعيا ورابطة وطنية روحية، فيعمل على إنتاج المواطنة وفق الضوابط والتشريعات العامة التي تحدد معايير النجاح، وإعادة صياغة المفهوم بطريقة تؤكد الاستدامة والتنوع في المعطيات، وطرحها كمشروح حضاري يتبناه المواطن بمحض اختياره ورغبته للقناعة بأن البحث في الحقوق والواجبات والمسؤوليات لم تعد كافية فقط في بناء موازين التقدم والرقي الحضاري والممارسة الواعية، إن لم يصحبها شعور المواطن نفسه بمسؤولياته في رد جميل الوطن وصون مبادئه، والالتزام بقواعده وتشريعاته، ولم يعد موضوعها حق المواطن ومسؤولية الدولة، بل اتخذت واقعا جديدا يقوم على تكامل الشعور المشترك بينهما، وتوافق البحث في محددات مشتركة للتطوير متناغمة مع أولويات التنمية.
وبالتالي يؤطر هذا المسار لمدخل الإنتاجية في صناعة المواطن القادر على تقوية أرصدة نجاحه في التزامه بتحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040 ، بحيث يصبح سدا حصينا منيعا في وجه كل التأثيرات السلبية التي قد تعيق استدامة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الأخلاقي والقيمي، لتظهر في كل تجليات الحياة اليومية في العمل والممارسة الوظيفية والإخلاص في الأداء وإنجاز المهام واحترام المسؤوليات وتنفيذ الواجبات، وامتلاكه عقلية الوفرة وإستراتيجيات التثمير وفرص التغيير، وقبول الاختلاف من أجل التكامل المؤسسي، فيوجه عقله وقلبه وقلمه ونطقه من أجل رسم صورة ملهمة تقترب من الطموح، ويتجلى خلالها الواقع منهج عمل ونهج أداء يظهر في التزامه وابتكاريته ورفع مستوى الإنجاز المؤسسي، وهي إنتاجية تقوم على التناغم بين كفاءة التعليم في بناء الإنسان القادر على صناعة الفارق وإنتاج القوة في نفسه ومجتمعه وقراراته وتفكيره، باعتباره قيمة مضافة في اقتصاديات التنمية، وبوابة المستقبل في صقل مواهب المتعلمين وتعظيم القيمة الاستثمارية في موارده وممكناته وإمكاناته ومهاراته واستعداداته، والممكّن لهم في اكتشاف جاهزيتهم الفكرية والنفسية والمعنوية والأدائية.
وعليه فإن قدرة التعليم على تأصيل هذه المعاني في فقه مخرجاته، تعبير عن التزامه مسار الجودة، ووصوله إلى مرحلة الكفاءة، ودوره في توليد الوظائف وصناعة الإنتاجية بالشكل الذي يضمن قدرة المخرجات على التعاطي الواعي مع التحديات المرتبطة بالتغيير الحاصل في سوق العمل وطبيعة الوظائف، وبناء كفايات المواطن ومهاراته الأساسية والناعمة، وتعزيز التنافسية فيها وأن يتجه إلى الابتكارية والتجديد والتطوير في فلسفة بناء المناهج الدراسية، وأساليب التثقيف والتوعية والمناشط التعليمية، وأساليب التعليم وطرائق التدريس ودور المختبرات العلمية، وبرامج الاستكشاف العلمي بالجامعات والمدارس، وورش العمل المتخصصة في توفير فرص دعم للخريج، وتأسيس أدوات بناء الثقة فيه، ونقله من مرحلة الشعور السلبي الذي يتولد لديه بعد تخرجه وهو يشاهد قوافل الباحثين عن عمل في التخصص أو تخصصات أخرى، إلى كون التعليم مسار تراكمي مؤطر للمعارف والخبرات المتجددة ومواءمتها لمتطلبات سوق العمل، وتوظيف المهارة في بناء مشروعه القادم.
أخيرا؛ تبقى المواطنة المنتجة التي تتناغم مع متطلبات التنمية ورؤية عمان 2040، تلك التي تصنع التغيير وتبني الفرص، وتعيد إنتاج الواقع بصورة أكثر إشراقة وتفاؤلية، ينتقل فيها الفرد من الأنا والأنانية والمصالح الشخصية إلى تقدير الآخر وتعظيم وجوده في ذاته، من أجل حياة مجتمعية تتسع فيها فرص التعايش والتكامل، وروح المساواة ومنطق العدالة وقيمة الاختلاف من أجل التكامل وقوة المنتج، وفضيلة التعاون والإحسان والأخذ بيد الآخر إلى تقاسم إيجابية الحياة وجمالياتها وفق معايير الذوق الرفيع وإدارة المشاعر وتنمو فيها فرص الحوار وحل الخلافات والتباينات بطريقة إنسانية راقية في ظل خصوصية الرأي وذائقة التصرف، إنّ دور التعليم في الإجابة عن التساؤلات التي تطرحها مؤشرات تحقق المواطنة في حياة الفرد والمجتمع، وقدرته على حل إشكالية التناقضات والتباينات التي يواجهها الناشئة في ظل ارتفاع سقف المؤثرات والعوامل الداخلية والخارجية التي باتت توجه الناشئة وتبني قناعاتها، ليصنع من نموذج المواطنة المنتجة مؤشر على جودته وكفاءته وتحقيقه المعايير.