أثير- تاريخ عمان
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
عزيزي قارئ “أثير”: ربما طالعت أثناء زيارتك إلى المتحف الوطني بمسقط، أو عند تصفّحك لبعض الصفحات الخاصة بالتاريخ العماني في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، صورة للسلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- في طفولته المبكّرة وهو يرتدي قلادة ذهبيّة مميّزة بنقوشها الجميلة، بينما والده السلطان سعيد بن تيمور يمسك به بكلتا يديه، ولعلّك تساءلت حول ماهيّة هذه القلادة، ومتى صنعت؟ ومن صنعها؟ وغيرها من الأسئلة المتعلقة بها، ولربما نسيت تساؤلاتك تلك بعد برهةٍ من الزمن لكنها تراودك في كل مرةٍ ترى فيها تلك الصورة مرةً أخرى؟
“أثير” تقدّم لك في هذا التقرير الإجابة عن تساؤلك وتساؤل العديد من القرّاء والمهتمين بالتاريخ العماني، وبالأخص التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وذلك من خلال الاقتراب من تاريخ إحدى الأسر العمانية التي برزت في مجال صياغة الذهب والفضّة، وأسهمت في صنع جانب من تاريخ مدينة مسقط الاقتصادي من خلال نشاط عدد من أفرادها، ألا وهي أسرة أبناء عبد الله بن حارب الصائغ، منذ ظهور مؤسسها الحاج عبدالله بن حارب، وحتى أحفاده الحاليين، مرورًا بعدد من الشخصيات مثل يعقوب بن عبدالله، وإسماعيل وإسحاق أبناء يعقوب، وآدم بن إسحاق، ومحمد وعبد الحميد أبناء آدم.
البداية
عرفت مدينة مسقط من خلال مينائها التجاري النشط، وسوقيها الداخلي والخارجي، عددًا من الأنشطة الاقتصادية المختلفة التي ارتبطت بنشاط المدينة الاقتصادي، وحركة السفن الداخلة والخارجة من وإلى الميناء، والتنوع الاجتماعي والديموغرافي الذي عرفته المدينة بحكم انفتاحها على الموانئ المختلفة.
ولعل من بين تلك الأنشطة الاقتصادية، نشاط صياغة الذهب والفضة الذي ازدهر في المدينة بحكم ذلك التنوع، ووجود أسر ومكونات سكانية اهتمت باقتناء الحلي والمجوهرات، عدا عن وجود القصر السلطاني وما يعنيه ذلك من رغبة في الحصول على أنواع مختلفة من تلك الحلي لاقتنائها من قبل سكّان القصر والحاشية المرتبطة به، أو لتقديمها كهدايا إلى ضيوف البلاط، هذا إذا ما أضفنا إلى ذلك كلّه حرص المجتمع على أن يرتدي أبناؤه منذ نعومة أظفارهم مجموعة من أدوات الزينة التي تبرز رجولتهم كالتلاحيق، وهي عبارة عن قرنٍ من الفضة المطلية بالذهب تعلّق بالعنق من الخلف، أو الخناجر، أو السيوف، أو ما يرتبط بزينة البنات كالمراري، والشماريخ، والبنجري، والغلاميات، والخواتم المختلفة، وغيرها.
لذا فقد برز وسط مجتمع مسقط عددٌ من الأسر التي مارست نشاط الصياغة وما ارتبط بها من أنشطة ثانوية وفرعيّة، ومن بين تلك الأسر والعائلات، عائلة الحاج عبدالله بن حارب الصائغ الذي برز نشاطه في مجال الصياغة مع منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، وذلك من خلال محلّه الذي افتتحه بحلّة (حيّ) الصفافير التي تقع في الجهة الجنوبية من سور مسقط بين حي ولجات وحي التكية، وقد اشتق اسم الحيّ من كلمة (صفّار) أي عامل النحاس، واسم (صفر) يطلق على النحاس، وكان المحل والبيت الذي يقع في الدور العلوي من المبنى نفسه مكانه جنب مسجد الزواوي عند الباب الصغير الذي يقع مقابل السوق ومقابل نادي مقبول عند المدرسة السعيدية، ويقع مسجد الزواوي الحالي في الموقع نفسه الذي بدأ فيه الحاج عبدالله بن حارب نشاطه.
وقد خلف الحاج عبدالله بعد وفاته ابنه الحاج يعقوب بن عبدالله الذي تشرّب أسرار المهنة عن والده، كما امتاز بخطٍ جميل، الأمر الذي دفعه إلى كتابة المصحف الشريف بخطّ يده مع ابنه إسحاق حيث انتهى من كتابته في الثالث من سبتمبر عام 1902م، وما تزال العائلة تحتفظ بالنسخة الأصلية من هذا المصحف.
وكان الحاج يعقوب بن عبدالله من الشخصيات المسقطية البارزة على المستوى الاجتماعي، وكان متفاعلًا مع الأحداث الاجتماعية المحلية، لذا عندما رغب السلطان فيصل بن تركي في بناء مستشفى على النمط الحديث في عمان لممارسة العلاج الحديث في ظل ظروف صحية مناسبة، ألا وهو مستشفى مسقط الخيري، وذلك عام 1909، وأمر السلطان فيصل بفتح قائمة الاشتراكات تحت رعايته الخاصة، وعقد اجتماعًا في قصره بتاريخ 6 فبراير 1909م بحضور عدد من أعيان البلاد لحثهم على الاشتراك في مبادرة إنشاء المبنى الجديد للمستشفى، حيث أوضح السلطان بدايةً الأسباب التي دعت إلى إنشاء هذا المبنى الجديد وهي أن المبنى السابق قد تهدم نتيجة قدَمه ولم يعد آمنًا، ونقل إلى مكان آخر لا يستوعب الأعداد الكبيرة من المرضى، ولا يتضمن تجهيزات مناسبة. كما أوضح كذلك رغبته مشاركتهم له في التبرع لبناء المستشفى الجديد الذي تقدر تكلفته بحوالي 40 ألف روبية، وأن هذا العمل الخيري سيعود بنفعه على الجميع، وسيستفيد منه الأغنياء والفقراء، كان الحاج يعقوب بن عبد الله أحد المتبرعين لدعم هذا المشروع المهم وقتها.
أنجب الحاج يعقوب بن عبدالله عددًا من الأبناء الذي أكملوا مسيرة والدهم وجدّهم من قبله في هذا المجال وهم إسحاق الذي امتاز بحسن خطّه وأسهم مع والده في كتابة المصحف الشريف بالإضافة إلى عمله في مجال الصياغة، وإسماعيل، وعبدالرحمن، ومحمد.
كان الحاج إسماعيل بن يعقوب الصائغ يعدّ من الصاغة الماهرين في صياغة النقوش العمانية التقليدية، وقد افتتح محلًا لصياغة الذهب والفضة في بركاء عام 1920م. كما طلبت حكومة زنجبار منه زيارة الجزيرة لصياغة مجموعة من الحليّ للقصر السلطاني هناك في عام 1925م، أي في عهد السلطان خليفة بن حارب بن ثويني، وقد توفي الحاج إسماعيل في عام 1939م.
وهناك وثيقة تعود إلى تاريخ 17 شعبان 1325هـ الموافق 10 مارس 1908م تشير إلى شراء الحاج إسماعيل الصائغ لمحل تجاري كائن في (سكّة الصوّاغ) من بلد مسقط قريبًا من دكاكين الميرزه، ودكّان هاشم الصائغ، وذلك عن (400) قرش، ويبدو أن الحاج إسماعيل أراد التوسع أو الاستقلالية في نشاطه.
ومن أبرز الأعمال التي قام بها الحاج إسماعيل بن يعقوب؛ قيامه بصياغة قلادة ذهبية بطلبٍ من السلطان تيمور بن فيصل (ولي العهد وقتها) بمناسبة ولادة ابنه السلطان سعيد بن تيمور، وذلك في شعبان من عام 1328هـ الموافق أغسطس من عام 1910م، وقد بقيت تلك القلادة حتى ولادة السلطان قابوس بن سعيد عام 1940م حيث تشير إحدى الصور إلى ارتدائه لها وهو في سن الثالثة من عمره، والقلادة محفوظة حاليًا في المتحف الوطني بمسقط.
ومن البارزين في مجال الصياغة من أبناء الأسرة، آدم بن إسحاق بن يعقوب بن عبدالله الصائغ الذي ولد في عام 1910م ومارس منذ نعومة أظافره مهنة آبائه وأجداده، وكان يتم طلبه من قبل عدد من أفراد الأسرة الحاكمة وشخصيات مسقط المعروفة لصناعة بعض التحف والهدايا الخاصة بالقصر أو بتلك البيوت الكبيرة، حيث تم صياغة أكثر من (1000) قطعة للقصر في عهد السلطان سعيد بن تيمور.
توفي الحاج آدم بن إسحاق الصائغ في مستشفى طومس في 4 رمضان 1390 هـ الموافق نوفمبر 1970م ودفن في مقبرة التكية، وقد خلّف كلًا من محمد وعبد الحميد اللذين كانا صغيرين في العمر نسبيًا عند وفاة والدهما، حيث كان ابنه الأكبر محمد يبلغ من العمر (18) سنة، بينما يبلغ ابنه الأصغر عبد الحميد (8) سنوات، لكن ذلك لم يثنيهما عن تشرّب مهنة آبائهما وإكمال المسيرة، والتوسع في فتح فروعٍ جديدة مستغلين الازدهار الاقتصادي والطفرة الحاصلة في مختلف المجالات، والتطور التكنولوجي في مجال صناعة الذهب والفضة، وذلك بعد قيام النهضة المباركة في عام 1970، وكان أول فرع يتم افتتاحه، في روي عام 1976م، وثاني فرع في روي كذلك عام 1986م، أما الفرع الثالث فقد تم افتتاحه في ولاية السيب في عام 1990م في دلالة على مدى التوسع وازدهار النشاط الخاص بالأسرة، مع بقاء الفرع الرئيس في مسقط.
وبعد صدور الأوامر السلطانية الخاصة بتنظيم مسقط في عام 1982م انتقل المحل من مكانه القديم إلى مكانٍ آخر داخل المدينة مقابل الباب الكبير قريبًا من البنك البريطاني ومبنى البريد القديم، وفي عام 1990م انتقل المحل إلى حارة (ميابين) قريبًا من مكتبة لؤي، مقابل مبنى وزارة المالية بجوار مبنى وزارة التجارة، وظل يعمل حتى التوسعة الجديدة للقصر، ثم تم الانتقال إلى مكان قريب من مبنى جهاز الضرائب، قبل أن يتم إغلاق المحل والانتقال إلى روي التي كان قد افتتح فيها فرعين كما أشرنا سابقًا.
اهتمامات مختلفة
عدا عن نشاط الصياغة، فقد كان للعائلة اهتمامات فكرية متنوّعة، وقد أشرنا إلى قيام الحاج يعقوب وابنه إسحاق بكتابة المصحف الشريف. كما حرص بعض أفراد العائلة على اقتناء مجموعة من الكتب النادرة ومن بينها نسخة من (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) المطبوع في مدينة ليدن سنة 1936، ونسخة قديمة من كتاب (الشاهنامة) الذي يعدّ ملحمة فارسية ضخمة تقع في نحو ستين ألف بيت، من تصنيف أبي قاسم الفردوسي، وتُعد أعظم أثر أدبي فارسي في جميع العصور، نظمها الفردوسي للسلطان محمود الغزنوي مصورًا فيها تاريخ الفرس منذ العهود الأسطورية حتى زمن الفتح الإسلامي وسقوط الدولة الساسانية منتصف القرن السابع للميلاد، والاشتراك في بعض المجلات الدورية المتخصصة كمجلة (الإسلام والتصوف) التي كانت تصدر في مصر خلال عقد الخمسينيات من القرن العشرين.
كما يحتوي مجلس العائلة في البيت الكائن بمنطقة الوادي الكبير على متحف مصغّر يضم مجموعة من المقتنيات المتنوّعة، والكتب والمجلات، بالإضافة إلى نماذج من نشاط العائلة في مجال الصياغة، ومجموعة من اللوحات التي تضم وثائق وصور خاصة بالعائلة.
أعمال خيريةتقيم مؤسسة أولاد آدم في الوقت الحالي العديد من الفعاليات الدينية والاجتماعية المختلفة، لعل من أبرزها مسابقة حفظ القرآن الكريم، وهي المسابقة التي انطلقت لأول مرة في عام 2004م، وتقام في شهر رمضان المبارك بمشاركة واسعة من مختلف الولايات، وقد وصل عدد المسجلين في المسابقة في نسختها العشرين إلى قرابة 300 متسابق في مختلف المستويات، منها حفظ القرآن الكريم كاملا، وحفظ 15 جزءًا، إضافة إلى التلاوة بمستويين للأعمار من 15 عامًا فما فوق ومن 14 عامًا فما دون. ومن ضمن إسهامات العائلة وأعمالها الخيرية بناء جامع طوي السيّد كما يعرف بين الأهالي، أو جامع سوق روي القديم، وهو من أقدم وأعرق الجوامع التي كان يُصلى فيها صلاة الجمعة، أما الاسم الأول والأشهر فهو نسبة للسيد السُلطان سعيد بن تيمور، فقد كان يعسكر بالجنود في هذا المكان حيث الطوي والسوق القديم، وقد أمر ببنائه نجله السلطان الراحل قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه، في مطلع السبعينيات قبل أن تشيد الجوامع الحديثة، وريثما يشيد جامع السلطان قابوس الحالي، وقبل أن تنتقل صلاة الجمعة للجامع الآخر وعيّن لهذا الجامع العريق إمامًا ومساعد إمام في ذلك الوقت، وهو من أوائل الأماكن التي حظيت بخدمة الهاتف آنذاك. وقد أعيد بناؤه من جديد بتعاون الأهالي وتكاتفهم وعلى نفقة الحاج عبد الحميد الصائغ، وقد افتتح في عهد جلالة السُلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- بتاريخ ١ أبريل ٢٠٢٢م.
المصادر:
- مقابلة مع الحاج عبد الحميد بن آدم. الوادي الكبير، الخميس، 27 يونيو 2024م.
- الصائغ، عبد الرحمن. معلومات مدوّنة في صفحة واحدة غير منشورة عن تاريخ الأسرة.
- العريمي، محمد بن حمد. حكاية المستشفى الذي تبّرع لبنائه أكثر من 50 شخصًا بينهم السلطان وأسرته، صحيفة أثير ، الخميس 13 فبراير 2020.
- الصور والوثائق من أرشيف أسرة أبناء آدم الصائغ.
- مقابلة مع الحاج عبد الحميد بن آدم. الوادي الكبير، الخميس، 27 يونيو 2024م.
- الصائغ، عبد الرحمن. معلومات مدوّنة في صفحة واحدة غير منشورة عن تاريخ الأسرة.
- العريمي، محمد بن حمد. حكاية المستشفى الذي تبّرع لبنائه أكثر من 50 شخصًا بينهم السلطان وأسرته، صحيفة أثير ، الخميس 13 فبراير 2020.
- الصور والوثائق من أرشيف أسرة أبناء آدم الصائغ.
- معدّ التقرير مع الحاج عبدالحميد بن آدم بن إسحاق الصائغ، وابنه عبد الرحمن، وابن أخيه إسماعيل بن محمد