مسقط-أثير
إعداد: هلال بن عامر بن علي القاسمي
ما المقصود بالتراث الغذائي الأمني؟ القارئ المختص سيتسرع وينفي وجود مثل هذا النوع من المصطلحات؛ قد يكون صائبًا، فلماذا لا نجلس على فنجان قهوةٍ في حصيرٍ صُنع من الرَّسَل، تحت شجرةٍ مطلَّة على غابة نخيل، يعزف فيها خرير ماء الفلج لحن يمدنا بالهدوء، لنراجع هذا المصطلح الغريب؟
سنتعاون في هذا المقال لتفكيك هذا المصطلح الذي سيقودنا لفهم أساسٍ قامت عليه الحضارة العُمانية، واستمر أجدادنا به في البقاء والتنمية، وولدنا أو آباؤنا بتغذيةٍ من أساسٍ لولاه كانت عُمان شحيحة الغذاء نادرة البقاء، نرى ما يظهر جليًا بين الفجاج العميقَة والوديان السحيقَة، والجروف الصخرية الوَعرة، وفي رمالٍ ذهبيةٍ جافَّة، وسيوح مديدة جردَاء، بساتينَ وحقولَ مليئة بالغذاء، وافرة العطاء، بدون وجود الأمطار المنتظمة كما في إندونيسيا والهند، ولا بها أنهار طويلة تحمل مياه غزيرة نتيجة ذوبان الثلوج، أو كثرة الأمطار فتنبع أنهار من سفانا وقمم وسهوب كالنيل في مصر أو النهرين في العراق وسوريا.
سنقف مرارًا طويلة كي نكتشف هذه الموارد المائية، التي لا نختلف أنها كشريان صناعي في جسدٍ كاد أن يموت بسبب نقص التروية لقلبه النابض، لن أتلاعب بأعصابكم والأساس الذي أقصده قد يكون في أذهانكم، نعم إنه هو؛ الفلج، هذا المعمار المبتكر في أرض عُمان أدى دورًا تنمويًا وأمنيًا، واكتفاء ذاتي، وملأ سلة الغذاء لمدى يزيد عن 4500 عام، إنه رقم يثير الفضول، بل يثير الرغبة في الجدال عند البعض، هذا الرقم هو صك إثبات بأن هذا النظام تم ابتكاره في عُمان، وقد جاء هذا الرقم بعد بحث وتنقيب ودراسة، وتحليل عينات أُكدت نتائجها مخبريًا أو كيميائيًا.
وصلنا إلى الأساس الذي قامت عليه الحضارة العُمانية والذي كنتُ أعنيه، وعرفنا الآن أنه تراث عريق أصيل بعُمان، وأنه جعل من عُمان مصدرًا منتجًا للغذاء، وثمَّة أمر في غاية الأهمية يجب أن نعرفه حول الفلج، بأن الفلج هو ركيزة عظيمة للتطور المدني والتوسع الحضري، وأنه كان إلى بداية القرن العشرين مكوّنا رئيس في الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي، ومن أهم موارد تنمية الصناعة والتجارة والزراعة، وبمقدمة ذلك أنه هو الركيزة الأساسية لبناء المدن والقرى، به بُنيت مدينة الرستاق ونزوى وعبري وسمائل، وبالاختصار تقريبًا 80% من القرى والمدن في عُمان.
شكَّل هذا المعلم التراثي الحضاري أيقونة عُمان الحيوية، وتهافت عليه العالَم منذ العصور التاريخية، ليتعلم كيف شُقَّ وكيف يُبنى، فاستَخدمَت الفكرة نفسها بلاد ما بين النهرين وظهرت فيها قنوات سُميت فلج بالعصر الأكادي، منها فلج كيري وفلج الخابور، ثم استَثمَرت الدولة الإخمينية الفارسية هذا النظام وجعلت من صحراء فارس مدن وقرى وحدائق غنَّاء، انتشر غربًا إلى أسبانيا، وانتشر شرقًا إلى أطراف آسيا بالمحيط الهادي.
أما هنا في موطنه الأصلي وفي أعماق عُمان، كان هذا النظام هو الروح التي يقاتل عنها كل فرد من القرية أو المدينة، يدافعون بكل ما أوتوا من حيلة وقوة ويموتون حياله، لم يكن شقه ومكابدة بنائه هو المجد الوحيد الذي تنزع من أجله الأرواح، بل الدفاع العسكري عنه كان ملحمة بطولية رائدة، الموت دون الفلج هي شهادة لا يتوانى فرد من البلد عنها، فليست تلك الملاحم بأساطير ولا أكاذيب ولا خزعبلات، بل هي حقيقة من صميم المجتمع العُماني الذي بذل ماله ونفسه ووقته وروحه لبقاء الفلج، أتعرفون لماذا؟
يقودنا جواب السؤال إلى الأمن، نعم إن تلك التضحيات ما كانت لأجل البهرجة والسمعة والشهرة، بل كي يحافظوا على مورد مائي وغذائي لأجلنا نحن، نحن الذين جئنا اليوم وننظر إلى تلك المنجزات مثلما ننظر إلى الصور المعلقة في الشوارع عند مدخل برج الصحوة، وهم نظروا إلينا منذ عهدهم القديم بكل عناية واهتمام ومحبة وإكرام، ضحوا لنجد الشريان الصناعي والقلب ينبض، والغذاء يُنتج، والأرض مبسوطة باخضرارها وعطائها.
ذكر المؤرخون أن في عهد مالك بن فهم دمر الغزاة الأجانب أفلاجا كبيرة من عُمان، أولئك الغزاة دمروا الأفلاج تشفيًا، وغيضًا، وحقدًا على هؤلاء العرب الذين تجمّعوا تحت إمرة مالك ليطردوا الغزاة الأجانب من بلادهم، ولم تكن الحادثة الوحيدة، ففي القرن الثالث الهجري حدثت كارثة كبرى أدت إلى تدمير عشرات الأفلاج بعُمان؛ وعلى يد رجل ليس أجنبيا، بل هو من صميم العرب والمسلمين، فأطلق عليه العُمانيون اسم “ابن بور” هذا الوالي الذي قاد الجيش من الشمال فخرَّب ودمَّر وقتل، هل تظنون أن الأفلاج ومن حافظ عليها توقفت فيها المعاناة والمجاهدة في ظل ظروف الغزو؟
كلَّا، يُدمِّر الأفلاج المحل أو الجفاف أكثر مما يدمرها الفيضان والإعصار والعواصف، عندما يحل القحط يبدأ انحسار ماء الفلج فتعلو نداءات الطوارئ في القرية، فيشمروا سواعدهم في أعماق تصل عشرات الأمتار، تحت مخاطر لا أحب ذكرها مراعاة لمشاعرك أيها القارئ المُحب، يعملون ليلًا أو نهارًا بقناديل أو شُعلات؛ اليوم لا نريدها حتى في جلسةٍ شاعريةٍ أمام شاطئ رملي، لكنهم اعتمدوا عليها، فتتبعوا المياه الجوفية وفجَّرُوا الينابيع.
وقفتُ في جانبٍ غربيٍ من سمائل، في سيح الراسيات تحديدًا، نظرت إلى الأفق الشمالي، لأرى تلك الثقوب الممدودة كعقد لآلئ، ثقوب صنعتها أيادٍ هي الحقيقة المحبة لهذا الوطن، وبنت فلجًا رائعًا معجزًا، يُحب الناس تسميته “فلج المدرة”، بلغ طوله 5 كيلومترات، وعمقه لا يقل عن 20 مترًا ومنهم من قال 30 مترًا، إنه أطول فلج في ولاية سمائل، لكن ما هو حاله اليوم؟ عندما رأى السلطان قابوس بن سعيد هذه الثقاب أمر بعُجَالَى أن تُصان ويُبنى لها بالإسمنت ما يحفظها، لكنه لم يكن يعلم أن الفلج حاله يرثى له، إن الفلج ميِّتٌ ليس مندثرًا بل استُغنِيَ عنه، ليس لنبع جديد، أو مصدر غذائي وفير، بل لبناء البيوت والمنشآت الصامتة.
هل تظنون فلج المدرة هو الوحيد؟ في أقصى شمال إمطي بولاية إزكي، هناك الأشد مرارة، فلج كأنه نهر عظيم، يضاهي فلج الخطمين في بركة الموز، مدَّ الإمام سيف بن سلطان اليعربي فيه ساعدًا، وبنى فيه رحًى، وضم الفلج ما يقارب 7 سواعد، وقسِّم إلى غيزين ليسقي أكثر من 50 هكتارًا، وساقية عرضها تصل إلى 170سم، وطول الفلج حوالي 4500م، وعمق 20مترًا، كل ذلك لم يشفع له، لن أطيل كثيرًا في تقديم الحسابات وأعداد الأفلاج التي أُهملت وتُركت للخراب، ولن أذكر المساحات الزراعية التي كانت تنتج الغذاء، وترفد السلة الغذائية بعُمان، واليوم تصفُرُ في أصقاعها الرياح، لكنني عملت في ذلك وكتبته وسيخرج العام القادم كتاب في جزئين خاص عن هذه العبقرية ومآلها، والأهم ذكره الآن هو ما يهدد هذه العمارة والأساس التنموي والأمن الغذائي من ممارساتٍ تُمارس من المجتمع العام والخاص.
يرن هاتفي فأسمع المتكلم وهو يخبرني أن فلجهم وزِّع فوقه مخطط سكني، آخر يخبرني أن آمة -أم- الفلج بينها وبين منشئة حديثة عدة أمتار، آخر يوصلني إلى أم فلج بينها وبين محطة صرف صحي أمتار قليلة، ثم آخذ العينات فتظهر بكتيريا معروفة مصادرها وهي مياه الصرف الصحي، آخر يخبرني أن الجهة المعنية تمنعهم من توسعة الفلج لأسباب، آخرون يشتكون أن أموال الفلج خصصت لغيره، وأخر يشتكي أن أوقاف الفلج أصبحت لغير ما أوقفت له، وفلج لو ينطق لبكى وقطع الأفئدة حسرة، فقد شقَّته المعدات ووضعت فيه الخرسانة بلا دراسة ولا تمحيص، ثم أتعمق بفكري وتأملي في خضم هذ المعتركات، فأجد أهل فلج يتمنون انقطاعه ليحولوا مزارعهم إلى مساكن، آخرون يسعون لدمار فلجهم بدون علمهم، لأن الوكيل لا دراية له، إنه يبتدع ويعمل بتعنت وعناد، وقد نتج عن بعضهم أن الفلج ينحدر نحو أمه وليس نحو المزارع، وبعض الوكلاء جعلوا الفلج ذي أربعة سواعد بساعد واحد، وأما الجهة المعنية، تصارع كما يقول المثل العُماني “كمن يصارع في الدوَّارة”، قد غفلوا عن قوانين وأحكام وأسس ونظام نشأ منذ آلاف السنين وهو مكتوب وموثق، ومعمول به، فيحاولوا باستمرار حتى اليوم لإنشاء قانون جديد، يبدؤون فيه من الصفر، ولا يكملون مسيرة آلاف السنين قادها العلماء والفقهاء والحكام، ونشأت واقعيًا حسب الحوادث والطوارئ والمعاملات، والأشد إيلامًا أن يتصل بي أحدهم ويقول: الجهة المعنية صنَّفت فلجنا الذي يبلغ عمقه حوالي 10 أمتار، وفيه سواعد يبلغ عمقها 3 أمتار فلجا غيليا وليس عِدِّيا، وفلجهم قديم ذَكَرته كتب التراث العُماني في قلب عاصمة عُمان القديمة، كل هذه المشكلات حلّها بسيط، دوِّنت في كتب التراث العُماني، وقد استخلصت منها الكثير والكثير، نعم بعضها يحتاج إلى تطوير حسب مقتضى العصر الحديث، وهذا هو لبُّ بقاء الأفلاج أنها تُطوَّر باستمرار، وإن لم تطوَّر تنتهي.
يأتي سائل ويقول: هذا شيء قديم، اليوم نحن نعتمد على وسائل حديثة، على أنماط اقتصادية ذات جدوى كبيرة، لاسيما أن المنتجات الزراعية تأتينا من الخارج بأرخص الأثمان، وبشتى الأصناف، لماذا نحصر أنفسنا في مساحات ضيقة تحدنا بها أفلاج، وما هي إلا شيء تركه الأولون لا يجدي اليوم!، هذا كلام يحز على النفس، وينبئ عن قصر نظرنا وضعف مبادئنا، فهيهات أن يجدي مع مثله حوار أو كلام، لكنني أوجه كلامي للقارئ الفطن، الذي يعلم أن الأمة التي لا تأكل مما تزرع ستموت جوعًا، القارئ الذي يحاول جاهدًا البحث عن وسائل التنمية والاكتفاء الذاتي باستثمار بيئته، ومن وطنه، فالإمكانات بعُمان وفيرة والحمد لله، والفلج إذا رأيناه من جانبه الحضاري هو محطة ترفد الاقتصاد، وإذا أردناه من جانبه الغذائي فهو أهم مفردة في الأمن القومي أو الوطني، وإذا نراه من جانب التنمية فهو أهم عامل يدفع التنمية ويضمن استمرارها، وإذا رأيناه من جانبه الهندسي فهو أيقونة الهندسة ليكون غدًا دافعًا للابتكار في المنشآت، كذلك هو العراقة التي تحفز أبناءنا عندما يعلمون أن أسلافهم كانوا من أهم البشر المبتكرين في ميادينٍ معماريةٍ وعلمية.
أدعو متخذي القرار الذين يعملون في الجهات المعنية التي أوكلت إليهم مسؤولية تنمية الزراعة، وتنمية مصادر الغذاء، والمحافظة على موارد المياه، أن يتعلموا التاريخ العُماني، ويقلبوا صفحات كتب التراث العُمانية، ففيها تأسست قواعد صامدة، ويبنوا فوقها أسوارهم التي توصلهم إلى القمم، أما أننا نبدأ من الصفر ونعتمد على ابتداع حديث، وبحث جديد نغفل فيه أو نهمش فيه ما بُني على أسس متينة متراكمة، لن نتقدم ونبقى نعاني الأمرين والمشكلات، وأرى أن على كل الجهات الحكومية والاجتماعية الرأفة بهذه الأفلاج، احترامًا لأولئك الأسلاف الذين ضحُّوا لبنائها، واعتزازًا لعراقة هذا الوطن، وبناء لُبنات فوق الأعمدة التي بناها العرب في عُمان، وعلى رأس ذلك تقوى الله تعالى في هذه الأفلاج، التي هي حسنات جارية أو ذنوب جارية، فما قَدمتَ فيها من خير هو كالصدقة الجارية، كل قطرة ماء منها تحيي روح، وكل قطرة ماء منها تنتج ثمرة.

